الأربعاء، 3 يونيو 2009

حروب دنيويه بقناع ديني:حسن عبد العال







حروب دنيوية بقناع ديني!


مراجعة حسن عبد العال


3-6-2009م


لا تكمن أهمية المؤرخ الروسي ميخائيل زابوروف من حيث كونه أحد الأسماء البارزة التي أغنت مكتبة حروب الفرنجة بالعديد من المؤلفات المتخصصة بهذه الحقبة من العصر الوسيط. بقدر ما تكمن أهميته كمؤرخ من ناحية فرادته وطريقة تناوله للحدث، أو الفعل التاريخي، من حيث مغزاه وبواعثه والمقدمات التي حرضت أو أفضت اليه. وبالتالي كشف النوايا والأهداف الحقيقية التي كانت وراء الحدث أو الفعل، والإضاءة عليها كطريقة في كشف خبث النوايا والأهداف المعلنة وتركها عارية من دون غطاء. وذلك كله اعتماداً على منهج تاريخي، تحليلي ونقدي، يتناول الحدث بموضوعية وبعيداً كل البعد عن الميول الشخصية والمؤثرات العاطفية والفكرية. واستناداً الى ما سبق يمكن أن نضيف اليوم بأن كتابات ا لمؤرخ زابوروف، ومنها الكتاب الذي بين أيدينا، تقدم على صعيد المعرفة التاريخية الحملات المرتبطة بحقبة حروب الفرنجة على حقيقتها كحملات نهب وتوسع لصالح الملوك والأمراء والإقطاعيين في أوروبا الغربية بعد نزع القشرة الدينية التي غلفت بها، بطريقة تخفف الى حد بعيد من الحرج الذي ما زالت تسببه للشعوب المسيحية التي لا تحملها الحقيقة التاريخية ما تم باسم المسيحية من آثام. وبالتالي تقدم للشرق الإسلامي (الذي سبق لمؤرخيه، الذين عاصروا حروب الفرنجة، الفصل بين حملات الفرنجة والصليب) رؤية جديدة عن مصائب تاريخية ألمت بالشرق الإسلامي كانت المسببة لها أطماع دنيوية ألبست لبوس المسيح وحملت اسم الصليب. كما يمكن أن نضيف أيضاً بأن الرواية التاريخية للحملات الصليبية التي يعرضها علينا المؤرخ الروسي للحروب الصليبية ميخائيل زابوروف لا ترضي الاتجاه الأصولي الناشط وسط الديانتين، الإسلامية والمسيحية، الذي يروج لصراع الحضارات، وصدام الشرق والغرب.زابوروف بدوره، ومن خلال المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب، يقول بأن هدفه الصريح من وراء الكتاب بخصوص هذه الحقبة التاريخية التي حملت اسم الحملات ا لصليبية، المساعدة في إرساء التسامح الديني من خلال عرض المآسي التي تمخضت عنها الحروب الصليبية التي شنت باسم الدين والدين منها براء، لأنها تسترت بعباءته بهدف إخفاء جوهرها القائم على النهب والتوسع والعدوان.وإذا كانت هذه الحروب تمت باسم الدين وتظللت تحت راياته، والدين منها براء بحسب رواية زابوروف. فما الذي جعل البابا يدعو اليها باسم الرب؟. وما الذي جعل رجال الدين مشاركين أساسيين في التحضير للحملة والمساهمة الفعلية بها؟، أليس هؤلاء ممثلو المسيحية. يجيب المؤرخ عن هذه التساؤلات المشروعة من خلال عرض تاريخي يكشف فيه عن حقيقة ما كانت تمثله الكنسية في الغرب خلال العصر الوسيط (وبخاصة خلال العقود القليلة السابقة على تاريخ الحملات الصليبية) كمؤسسة ذات طابع مركب ديني ودنيوي في آن معاً. فعلى الصعيد الأول، تحدد قواعد الإيمان وترعى الشؤون الدينية في أوروبا الغربية. وعلى الصعيد الثاني، هي جزء اساسي ومكون من مكونات النظام الإقطاعي في أوروبا الغربية، وهي بذاتها مؤسسة إقطاعية تمتلك مساحات واسعة من الأراضي وأعداد كبيرة من الضياع وتقوم بمعاملة الفلاحين التابعين لها بطريقة لا تقل سوءاً عن معاملة الإقطاعيين للفلاحين في الأراضي والضياع التي يمتلكونها.من هذا المنظور، أو بتعبير أدق من الجانب الثاني (الدنيوي) للكنيسة المسيحية في أوروبا الغربية، يمكن النظر الى الدور المنسوب للمسيحية في الحملات والحروب الصليبية التي استهدفت ليس فقط الشرق الإسلامي، وإنما أيضاً الشرق المسيحي الذي كانت تمثله في ذلك الوقت الإمبراطورية البيزنطية وكنيستها الأرثوذكسية.فالحروب التي عملت على زيادة ثروات الكنيسة ورجال الدين، إضافة الى تعزيز سلطتها الدنيوية علي كافة الإمارات والممالك الإقطاعية في أوروبا الغربية، كانت بحسب ما تفتقت عنه العبقرية الجيوبولتيكية عند البابا الذي دعا اليها، أفضل طريقة لخروج أوروبا من مآزقها وأزماتها المتلاحقة. فالزحف المقدس نحو القدس، واحتلال أرض اللبن والعسل، وسيلة مثلى لحل مشكلة الفقر والجوع التي كانت تفتك بالفلاحين وتزيد من نقمتهم على أسيادهم من ملاكي الضياع والأراضي. وهي بدورها وسيلة مثلى لنقل صراعات الأمراء والإقطاعيين، التي كانت تتسبب بها نزاعاتهم الدائمة الدائرة حول امتلاك الأراضي واقتسام الغنائم، من صراعات محلية تفتك بخراف المسيح، الى صراع مع عدو خارجي بعيد عن المجال الجغرافي للقارة.أما على صعيد عرض المآسي التي تمخضت عنها الحملات الصليبية التي شنت باسم الدين وتسترت بعباءته. فالمؤرخ زابوروف لا يكتفي بعرض ما سببته الحملات الهمجية التي قادها الملوك والأمراء والفرسان بمساعدة رجال الدين من فتك بالشعوب التي مروا بها، وأولها شعوب تدين بالديانة المسيحية (الأرثوذكسية)، وتدمير الأوابد والصروح الحضارية ونهب الثروات والأرزاق في الشرق العربي الاسلامي والبيزنطي المسيحي. وإنما يسلط الضوء على مصير مئات الآلاف من الفلاحين، والفقراء المعدمين الذين وقعوا منذ الحملة الأولى التي شكلت القاطرة للحملات التي تلتها، فريسة الدعوة التي أطلقها البابا في كليرمون (26/11/1095) الذي وعد في خطبته بتمليك الفقراء أرض اللبن والعسل، ولينهلوا فوق ربوعها ما يطيب لهم من نعم وأرزاق. فقد خاب أملهم بالأرض والحرية والأرزاق، وكل ما حصلوا عليه خلال مشاركتهم بهذه الحرب، الكثير من الويلات والمحن والبؤس وسقوط عشرات الآلاف من هؤلاء الحفاة العراة قتلى فوق هذه الأرض النائية كضحايا لا قيمة لها، لكي يتمكن الفرسان من ذوي الحسب والنسب، وعدة مئات من الدوقات والكونتات من كسب ضياع في الشرق. وفي ذات الوقت كضحايا بشرية لا قيمة لها، لكي يتمكن رجال الدين الذين ساهموا بخداعهم وتضليلهم من كسب ثروات خاصة بهم. وهي ثروات حصلوا عليها، بحسب الاختصاص ونظام توزيع الغنائم، من جراء عمليات النهب التي قاموا بها خلال تدنيس القبر المقدس الذي لم يسلم من أطماعهم الدنيوية، واجتياح الكنائس والأديرة التي كانت تحتوي على نفائس تكاد تكون أسطورية.



الكتاب: بالسيف والصليب
الكاتب: ميخائيل زابوروف
الناشر: دار الرأي، دمشق 2006
المستقبل - السبت 9 كانون الأول 2006
العدد 2470 - رأي و فكر - صفحة 19
حسن عبد العال
باحث فلسطيني مقيم في سوريا
mervat10mm@yahoo.com
موبايل:00963944094429


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق