الجمعة، 5 يونيو 2009

اسرائيل أمام معطيات وحقائق الجيو بو ليتيك:حسن عبد العال



إسرائيل أمام معطيات وحقائق الجيوبوليتيك



حسن عبد العال (*)


5-6-2009م


صورة إسرائيل اليوم، وبعد مرور نحو ستين عاماً على تأسيسها هي صورة لدولة باتت مثقلة وهرمة، ومتناقضة الى حد بعيد مع صورتها السابقة التي ما زالت ماثلة في الأذهان، صورة إسرائيل المتوثبة والمندفعة بقوة، والقادرة بفضل جيشها المدرب وفق أنجع النظريات الهجومية في تاريخ العلم العسكري الحديث، على اختراق كافة الجبهات العربية بسهولة ويسر، وكما يخترق السكين قالب الزبدة.السؤال الذي بات يتبادر اليوم في أذهان المراقبين المعنيين بهذه الظاهرة، سواء داخل إسرائيل أو خارج إسرائيل، ترى ما الذي حصل، وكيف يمكن لدولة أن تدخل في طور الهرم وهي بالكاد في عقدها السادس، والتي كما نعلم جميعاً ما كان ليمكن أن يكون لها حظ في الوجود لولا أكثر من نصف قرن من الجهود المتواصلة للحركة الصهيونية في بناء المستوطنات ووضع أسس ومقدمات مرحلة ما قبل الدولة، وفي ظل ظروف غالباً ما كانت غير مؤاتية، أو بتعبير آخر، كيف يمكن لدولة ليست كباقي الدول، ومسلحة من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها، وتتفوق بكل المقاييس العسكرية والتقنية على القوة العسكرية العربية مجتمعة، أن تدخل في طور الهرم المبكر.مشكلة إسرائيل أو بتعبير أدق ظاهرة إسرائيل الدولة القوية والقادرة، والوليدة حديثاً في مسيرة التحول نحو الهرم المبكر، لا يمكن فك رموزها، والوقوف على هذه الحالة الفريدة في التاريخ الحديث والمعاصر، إلا من خلال الاستعانة بحقائق ومعطيات علم الجيوبوليتيك الذي يقدم لنا تفسيراً فريداً لمصادر هذا النوع الفريد من الدول المتحفزة التي تعتمد، وعلى نحو جذري وأساسي، في عقيدتها الجيوبولتكية على مفهوم جيوبولتيكا الحرب. وهو مفهوم يقوم على تأكيد فكرة الارتباط العضوي والمصيري بين تلك النوعية المحددة من الدول التي تعتبر منذ ولادتها دولاً متحفزة استراتيجياً على الدوام، ومجالها الحيوي المنشود الذي يتخطى حدود الدولة القائمة بالفعل. وهذا المفهوم يقوم على فكرة سابقة جاء بها وطورها تباعاً كلاً من "راتزل" و"كيلين" و"هوسهوفر" وهذه الفكرة تقول، من منظور تلك الزمرة من الدول المتحفزة استراتيجياً على الدوام، بأن الدولة كائن حي قابل للنمو وباستمرار وهذه القابلية للنمو تدفع به على الدوام، كضرورة داخلية، للنمو على حساب الدول أو الدويلات المجاورة بهدف استكمال بقية أعضائه، ولو اضطره ذلك الأمر الى الاستخدام الدائم لوسيلة الحرب، وعلى أساس من هذه الفكرة التي لا تعترف بحدود مرسومة أو نهائية للدولة قبل حصولها على كامل الأعضاء التي تعوزها وتضمن لها مناعتها الخارجية، فالدولة أمام خيارين لا ثالث لهما، فهي إما أن تكبر وتتوسع في مجالها الحيوي الى الحد الذي يناسبها ويناسب هدفها المتجدد على الدوام في الوصول الى استكمال نموها الطبيعي حتى حدوده القصوى، وإما أن تضمر وتموت.هذه النظرية التي أشد ما تنطبق على إسرائيل المعتمدة في عقيدتها الجيوبولتيكية على انتهاج وسيلة أو مفهوم جيوبولتيكا الحرب (ليس كمجرد خيار، وإنما كمسلك طبيعي وجواني تفرزه تركيبتها وعقيدتها الأيديولوجية والسياسية كما تفرز المعدة عصارتها) يكمن فيها فك لغز وسر ظاهرة إسرائيل الدولة الحديثة الولادة التي بدأت تصاب بالهرم المبكر. فإسرائيل بحكم نشأتها كدولة صهيونية ووطن لليهود، كل اليهود، ليست مجرد مشروع دولة مشادة فوق ساحة مرسومة وفق القرار 181 لعام 1947، ولا دولة فوق الأراضي التي تمت حيازتها إثر إعلان الدولة عام 1948، ولا هي بالتالي دولة فوق أرض فلسطين الانتدابية التي تمت السيطرة العسكرية على ما تبقى منها اثر حرب عام 1967. وإنما هي بالمعنى وبالمفهوم الجيوبولتيكي الذي قامت على أساس منه الدولة مجرد محطة وقاعدة انطلاق مركزية في مشروع دولة اسرائيل الكبرى بمجالها الحيوي الممتد من أرض النيل غرباً الى أرض العراق شرقاً، وبقدر ما هي أيضاً الدولة القاعدة التي يتجمع فيها يعود العالم قاطبة بملايينهم التي كانت تتجاوز الرقم /13/ في عام الانتصار الإسرائيلي في حرب الأيام الستة الشهيرة التي شكلت إنجازاتها العسكرية حالة من اليقين، في أوساط قادة إسرائيل والحركة الصهيونية، بأن لحظة التماس بين الطموح الجيوبولتيكي غير المحدود بسقف والحقيقة قد تمت، وبأن حلم إسرائيل الكبرى الذي قامت عليه إسرائيل التي شكلت منذ عام 1948 بداية كل البدايات في مسيرة الألف ميل نحو تحققه، باتت بالمعنى التاريخي قاب فوسين أو أدنى.واقع إسرائيل اليوم، ومع ذكرى مرور 40 عاماً على حرب حزيران لعام 1967، هو واقع دولة باتت بحكم الواقع مقطوعة الصلة مع كل ما وعدت نفسها به من آمال وطموحات جيوبولتيكية، وهو فوق ذلك واقع دولة باتت بحكم الواقع أيضاً تجد نفسها في موقع الدولة المضطرة للانكفاء نحو الداخل وإعادة التموضع داخل الخط الأخضر (وإن أمكن بصحبة المستوطنات اليهودية المحاذية له). فالسيطرة العسكرية على المناطق (الضفة والقطاع) والى ما لا نهاية بات أمراً فوق طاقة الدولة وقدرتها على الاحتمال بفعل تكاليفه الباهظة مادياً وبشرياً. كما بات فوق ذلك بفعل حالة التشابك بين الدولة والمناطق الناجمة عن الاحتلال، يهدد بتحوّل اليهود الى أقلية فوق أرض إسرائيل (فلسطين) مع نهاية العقد الحالي.هذا واقع إسرائيل اليوم، واقع دولة لم تعد قادرة على التوسع، وبالتالي لم تعد تجد مصلحتها في حالة التمدد الجغرافي الذي يتجاوز القدرات والامكانيات، بقدر ما باتت تجد مصلحتها في المحافظة على مشروع الدولة الذي كسبته عام 1948. أما عن إسرائيل الكبرى فقد وجدت الدولة، التي عجزت عن توسيع مجالها الحيوي الى الحد الذي يناسبها ويناسب هدفها المتجدد وعلى الدوام في الوصول الى استكمال نموها الطبيعي حتى حدوده القصوى، في مشروع القدس الكبرى بديلاً واقعياً يتناسب مع الحالة التي بدت عليها، بعد أربعة عقود من التجربة والاختبار، كدولة باتت على أرض الواقع، ومن جهة النظر العملية، مقطوعة الصلة مع مشروعها الجيوبولتيكي الذي شكلت بدورها منذ عام 1948 بداية بداياته.

المستقبل - الثلاثاء 3 تموز 2007


العدد 2662 - رأي و فكر - صفحة 17


حسن عبد العال


باحث فلسطيني مقيم في سوريا



موبايل:00963944094429




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق