الاثنين، 28 يونيو 2010

المثقفون العرب وفكرة " الشر ق الأوسط ": حسن عبد العال

المثقفون العرب وفكرة " الشر ق الأوسط "

حسن عبدالعال

28-6-2010م
مدخل

بدأ مصطلح (الشرق) كتعبير جغرافي أوروبي يشمل تلك المنطقة الشاسعة من العالم التي تبدأ بمصر والجزيرة العربية و بلاد الشام و تركيا و إيران ، و تنتهي بالهند و الصين و اليابان ، ينتشر داخل أقطار المشرق العربي منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وأصبح يغزو المطبوعات العربية في القاهرة و القدس و بيروت و دمشق و بغداد و حلب। و لعل مقالة "الشرق" التي كتبها سليم البستاني مع بداية عام 1870، كفاتحة للعدد الأول من مجلته البيروتية (الجنان) هي من أولى المقالات الأدبية والصحفية العربية التي دشنت مرحلة الأخذ بمصطلح الشرق كتعبير جغرافي و حضاري يتناول الأرض و الثقافة و الشعب في هذه المنطقة من العالم। و منذ السبعينات من القرن التاسع عشر ، أصبح تعبير "الشرق" و"شرقنا" و"نحن الشرقيين" تعبيراً مألوفاً في الأدبيات الصحفية و الفكرية و الأدبية العربية ، التي بدأت تستخدم مصطلح الشرق في مقالات و دراسات و مباحث أدبية و فكرية و سياسيـة ، مثل بحث أديب اسحق "الشرق" الذي نشره في القاهرة مع نهاية عام 1879 (1) . و لعل المتتبـع لملف الدراسـات الأدبية والفكرية خلال هذه الفترة من عصر النهضة سيجد أن المقالات التي تبحث في الشرق و علاقة الشرق بالغرب ، و مزايا الشرق قياسـاً بالغرب، و مزايا الغرب قياسـاً بالشرق، قد أصبحت أثيرة على قلوب و أقلام و عقول العديد من كتاب ذلك العصر. و من هذا الفيض نجد للشيخ جمال الدين الأفغاني محاورة بعنوان "محاورة بين الشـرق و الغـرب" و للشـيـخ نجيب حداد مقالاً بعنوان "الشـرق والغرب"(2). و مع بداية القرن العشرين استمرت وتيرة الكتابة التي تتناول الشرق و علاقة الشرق بالغرب و تباينهما في مجالات المفاهيم و الأخلاق و القيم. و هكذا أصبح تعبير الشرق ، كتعبير جغرافي و حضاري ، مصطلحاً سائداً في الحياة الفكرية و السياسية العربية في وقت أصبح فيه الشرق ، و الشرق العربي منه بشـكلٍ خاص ، يأخذ في الغرب أكثر من أي وقت ٍ مضى دلالات ٍ جيو بولتيـكيــة وجيوستراتيجية دفعت بالغرب إلى ضرورة تقسيمه إلى حظائر إقليمية تقسم الشـرق إلى أقصى و أدنى ، و أحياناً أخرى كانت تدفع بضرورة تقسيم الشـرق الأقصى إلى شـرقين: "شـرق" و "شـرق أقصى" ، والشرق الأدنى إلى شرقين: "شرق أوسط" و "شرق أدنى".في المشرق العربي ، و على الوتيرة نفسسها التي تعاطى بها كتاب عصر النهضة مع مصطلح (الشرق) كتعبير جغرافي و سياسي و حضاري، بدأ مصطلحا "الشرق الأدنى" و "الشرقين الأدنى و الأوسط" بالانتشار داخل الأوساط السياسية والفكرية العربيةمنذ بداية الثلاثينات. و كما كان الأمر في انكلتــرا و الولايات المتحدة الأميركية كان هذان المصطلحان بدورهما غير محددي المعالم داخل هذه الأوساط المشرقية العربية التي كانت تستخدم هذين المصطلحين المستوردين للتعبير عن منطقة جغرافية ، أو عن حظيرة من الدول ، تختلف من كاتب لآخر بحسب تأثر كل منهما بالمركز الغربي الذي يستقي منه مفرداته و لغته السياسية عن هذه المنطقة من العالم. فأحياناً كانت المطبوعات التي تصدر عن بعض العواصم العربية مع بداية الثلاثينات تستخدم مصطلح الشرق الأدنى للدلالة على حظيرة من الدول التي تضم المشرق العربي و جواره ، كما في كتاب فيليب طرزي الذي صدر عن مطبوعات الجامعة الأميركية ببيروت عام 1933 في جزأين و الذي حمل عنوان (مراجع ما نشر بعد الحرب العظمى عن بلدان الانتداب في الشرق الأدنى) (3) 0 وهو كتاب يجد الباحث فيه تغطية شاملة لما نشر من المطبوعات في العلوم الاجتماعية عن العراق و فلسطين و شرق الأردن و سورية و لبنان بدءاً من تشرين الثاني لعام 1918 حتى نهاية عام 1929. و أحياناً أخرى كان يُشار إلى هذه الحظيرة من الدول التي تضم المشرق العربي و جواره عبر استخدام مصطلح الشرقين الأدنى و الأوسط، كما في كتاب عبد الفتاح إبراهيم الصادر في بغداد عام 1932 بعنوان (على طريق الهند) (4) ، حيث تعامل الكاتب على امتداد كتابه مع وطنه العراق على أنه من بلدان الشرق الأدنى منسجماً في ذلك مع التقسيم البريطاني للشرقين الأدنى و الأوسط كما كان معمولاً به في الثلاثينات0 كما تعامل مع مصر و سوريا و فلسطين على أنها من بلدان الشرق الأوسط انسجاماُ مع التقسيم البريطاني السابق ذكره.

وعلى هذا المنوال سارت الأوساط السياسية و الفكرية العربية التي سايرت المراكز الأوروبية في تقسيمها للمشرق العربي و بدأت منذ بداية الثلاثينات تنهج نهج لندن و واشنطن و باريس في تقسيم المشرق العربي و جواره إلى حظائر إقليمية ، و تنتقل في توصيفها الجغرافي و السياسي للمشرق العربي و جواره من مصطلح إلى آخر، و من توسيع و تقليص للرقعة الجغرافية لكل حظيرة إقليمية بشكل يتطابق و مذهب هذه المراكز ، التي اعتادت إجراء تعديلات على المصطلح الجغرافي الذي كانت تتعاطى به بطريقة تتناسب و التحولات التي كانت تطرأ على خططها الستراتيجية و توجهاتها الجيوبولتيكية ، إلى حدٍ كان يدفع بإحدى هذه المراكز إلى قلب الأوراق رأساً على عقب بتحويل الشرق الأوسط إلى شرق أدنى و تحويل الشرق الأدنى إلى شرق أوسط *، أو كان يدفع مركزاً آخر إلى دمج الشرقين الأدنى و الأوسط في شرقٍ واحد ، أدنى أو أوسط ، و إعادة رسم تخومه من جديد حتى يصبح أشمل و أوسع من الشرقين الأدنى و الأوسط مجتمعين ، كما هو حال مصطلح الشرق الأوسط الذي أصبح ، منذ نهاية الأربعينات و بداية الخمسينات ، المصطلح المسيطر على اللغة السياسية و القاموس السياسي في لندن و واشنطن اللتين وسعتا مفهوم الشرق الأوسط ، الذي أصبح يشير إلى الأقاليم والبلدان التي كانت مندرجة من قبل ضمن حظيرة الشرق الأدنى و حظيرة الشرق الأوسط، بعدما أضيفت إليه أقاليم من الشمال الإفريقي و الحوض الإفريقي من البحر الأحمر و جزر من حوض البحر الأبيض المتوسط.
-1-رموز التيار العربي الداعي إلى فكرة و مصطلح الشرق الأوسط في الأربعينيات:في هذا الوقت من عقد الأربعينات كانت القاهرة، كما في عقودٍ سابقة، مركزاً و عاصمةً للفكر والثقافة في الوطن العربي، كما كانت في ذات الوقت مركزاً للقيادة العسكرية البريطانية في المشرق العربي ، ومقراً للنشاطات البريطانية الموجهة من قبل الدوائر المتخصصة بالمشرق العربي في وزارتي الخارجية و المستعمرات. و كانت هذه القيادات و الإدارات و المؤسسات البريطانية التي تدير نشاطاتها في المشرق العربي من القاهرة تطلق على نفسها ، بحسب اختصاصاتها ، تسمياتٍ مقترنةً بمصطلح الشرق الأوسط. وبحسب هذا التوجه الرسمي كانت القيادة العسكرية البريطانية المتمركزة في القاهرة ، و المختصة بالمشرق العربي و جواره ، تطلق على نفسها منذ بداية الأربعينات تسمية (قيادة الشرق الأوسط)، كما كانت المؤسسة التي أقامتها بريطانيا في القاهرة منذ بداية الأربعينات، بقصد تكريس السيطرة الاقتصادية البريطانية على أقطار المشرق العربي، تحمل اسم (مركز تموين الشرق الأوسط) (5) ، كما كانت القاهرة مركزاً لنشاطات هذه المؤسسة الاستعمارية التي رعت في القاهرة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية العديد من الندوات و المؤتمرات الإقليمية التي تخصصت بالجوانب المختلفة من اقتصاديات الشرق الأوسط.هذه النشاطات البريطانية الشرق أوسطية التي كانت تشهدها القاهرة، إضافةً إلى الأبحاث و الدراسات و المؤلفات البريطانية و الأميركية الصادرة وقتذاك والتي كانت تتناول المشرق العربي و جواره مستخدمةً تعبير الشرق الأوسط ، بدأت وبصورة تلقائية تفعل فعلها ، بشكلٍ تدريجي ، داخل الوسط الثقافي العربي في مصر الذي بدأ يتقبل ، بشكلٍ أو بآخر ، مصطلح الشرق الأوسط كتعبيرٍ جغرافي و حضاري وسياسي يشمل أساساً المشرق العربي و العديد من الدول المجاورة له. و من داخل هذا الوسط بدأ يظهر تيار يدعو إلى اقامة شرق أوسط متحرر من التبعية و الاستعمار يشمل أقطار المشرق العربي ، إضافة إلى بلدانٍ أخرى مدرجةٍ ضمن قائمة أسماء التركيبة البريطانية للأقطار المكونة لحظيرةالشرق الأوسط. و من أبرز الرواد لهذا التيار الدكتور راشد البراوي الذي يعتبر ، من خلال كتابه الهام (حرب البترول في الشرق الأوسط) الصادر في القاهرة عام 1947 ، الأول في قائمة المثقفين العرب الذين تبنوا رسمياً مصطلح الشرق الأوسط الذي شكل العنوان الرئيسي لواحدٍ من أهم مؤلفاته (6)، كما عمل منذ ربيع عام 1948 ، من خلال جامعة فؤاد الأول، على تأسيس جمعية تُعنى بتقديم الأبحاث والدراسات الأكاديمية الخاصة بالأحوال الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية لإقليم الشرق الأوسط 0 واختار لهذه الجمعية ، التي أصبح رئيساً لها و لمجلسها ، اسم (جمعية شؤون الشرق الأوسط) التي بدأت منذ عام 1948 بإصدار سلسلة من المؤلفات كان أولها كتاب (مشكلات الشرق الأوسط) الذي صدر باسم الجمعية المذكورة عن مكتبة النهضة المصرية صيف عام 1948 0 و كانت البلدان المشمولة باختصاص الجمعية مقصورةً فقط بإقليم الشرق الأوسط الذي كان يضم حسبما جاء في مقدمة كتاب (مشكلات الشرق الأوسط) ، التي وضعها الدكتور البراوي ، : "المنطقة الممتدة من حدود الهند شرقاً إلى البحر المتوسط و وادي النيل غرباً ، ومن البحر الأسود شمالاً حتى الخليج الفارسي و المحيط الهندي جنوباً" 0 أي كان هذا الإقليم بحسب الخارطة السائدة لمنطقة الشرق الأوسط التي أخذ بها الدكتور البراوي و جمعية شؤون الشرق الأوسط يشمل حسبما جاء في المقدمة المذكورة الأقطار التاليـة : "أفغانستان ، إيران ، العراق ، تركيا ، لبنان ، سورية ، فلسطين ، شرق الأردن ، شبه الجزيرة العربية، وادي النيل"(7) .على هذا الصعيد المحبذ لفكرة الشرق الأوسط و الشروع بتأسيس شرق أوسط متحرر من التبعية والاستعمار، شهدت القاهرة مع بداية عام 1948 ولادة مشروع ريادي هو الأول من نوعه على صعيد الدعوة الجادة لتأسيس شرق أوسط منسجم جغرافياً و روحياً . و اقترن هذا المشروع، الذي لم يتجاوز مرحلة الدعوة إليه ، بالبكباشي عبد الرحمن زكي الذي أطلق دعوته الريادية على هذا الصعيد من خلال كتابه (الشرق الأوسط) الذي ظهر في القاهرة خلال شهر كانون الثاني (يناير) من العام 1948 (8) 0 و من خلال هذا الكتاب المحبذ لفكرة الأخذ بمصطلح الشرق الأوسط ، كتعبير جغرافي و سياسي وحضاري مقبول عربياً و علمياً ـ من وجهة نظر المؤلف بالطبع ـ عن المشرق العربي و جواره ، يُقر البكباشي زكي بأن مصطلح الشرق الأوسط ] الذي بدأ يتداوله بكثرة رجال الحرب و السياسة خلال الحرب العالمية الثانية كتعبير عن المنطقة الجغرافية الشاسعة التي تضم بين جوانبها : "بلاد اليونان، وقبرص، و تركيا، و إيران، و العراق، و سورية، و لبنان، و فلسطين، و مصر، و السودان، و شبه الجزيرة العربية، و بلدان شمال إفريقية المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي" [ هو مصطلح كان أصلاً يُعبر عن حاجة الغرب لوحدة إقليمية تسخر في خدمة أغراضه الاقتصادية والسياسية و العسكرية. و لكن هذه الخلفية الاستعمارية لفكرة الشرق الأوسط لا تدفع بأقطاره إلى رفض الفكرة من أساسها ، بقدر ما يجب أن تدفع بأقطاره مجتمعة إلى الشروع بإقامة شرق أوسط متحرر من التبعية و الاستعمار و مكون من مجموعة من البلدان المتجاورة التي تجمع بينها وحدة جغرافية و تأتلف مادياً و روحياً (9). و يحبذ البكباشي عبد الرحمن زكي أخذ الأقطار المشكلة للشرق الأوسط الذي يدعو إليه من الوصفة البريطانية التي كانت ترد في المطبوعات الرسمية للمملكة المتحدة خلال سنوات ما بعد الحرب، و التي كانت تُشكل حظيرة الشرق الأوسط من 21 بلداً هذه قائمتها: "مالطة، طرابلس، برقة، مصر، قبرص، سورية، لبنان، فلسطين، شرق الأردن، العراق، إيران، مشيخات الخليج الفارسي، بلاد العرب السعودية،اليمن، عدن و محميتها، أرتيريا، إثيوبيا، الصومال الفرنسي و الإيطالي و الإنجليزي، و السودان المصري و الإنكليزي" 0 مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن تصورات البكباشي زكي لشرق أوسط منسجم و متكامل جغرافياً كانت تستبعد الصومال وأثيوبيا من قائمة البلدان التي تشكل حظيرة الشرق الأوسط ، "نظراً لوقوعهما في المنطقة الاستوائية البعيدة إلى حدٍ ما عن دائرة الشرق الأوسط" (10) 0 ويطالب بالاستعاضة عنهما بدولة تركيا ، "التي تأتلف طبيعتها الجغرافية مع بلدان شرق البحر الأبيض المتوسط" (11) ، كذلك الأمر يستبعد البكباشي عبد الرحمن زكي من قائمة البلدان التي تشكل الشرق الأوسط الذي يدعو إليه كلٌ من مالطة وطرابلس، لأنه كان يراهما "نائيتين عن دائرة الشرق الأوسط" (12). و بحسب وصفة البكباشي زكي فإن شرق أوسط منسجم جغرافياً و مادياً و روحياً يجب أن يتشكل من الأقطار التالية: "تركيا، قبرص ، سورية ، لبنان، فلسطين، شرق الأردن، العراق، إيران، الإمارات العربية، المملكة العربية السعودية، اليمن وعدن، أرتيريا، مصر، برقة" ( 13). و من خلال كتابه المذكور، الذي دعى فيه للأخذ بجدية بفكرة تشكيل الشرق الأوسط ، يدعو البكباشي عبد الرحمن زكي الدول التي تشكل حظيرة الشرق الأوسط للمباشرة و البدء بإقامة نوع من التعاون العلمي و الفني بين هذه الدول عبر تأسيس (معهد لدراسات الشرق الأوسط) (14) يكون مركزه في القاهرة و يتشكل كادره من متخصصين من أبناء هذه الدول في شؤون الشرق الأوسط "الاقتصادية و السياسية و المعنوية 0000".****خلال هذه الفترة من سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت على أرض مصر بروز اتجاه أكاديمي محبذ للأخذ بفكرة و مصطلح الشرق الأوسط ، على طريقة الدكتور البراوي و جمعية شؤون الشرق الأوسط المتفرعة عن جامعة فؤاد الأول، و اتجاهاً آخر داعيا لفكرة الشرق الأوسط كمشروع سياسي و حضاري اقترن بداعيته البكباشي عبد الرحمن زكي. بدأت تشهد القاهرة مع بداية عام 1949 ظهور مؤلفات [لكتاب مصريين] تتصدى لأحوال شؤون و أزمات المشرق العربي تحمل عناوين مرتبطةً بمصطلح (الشرق الأوسط) على طريقة الاستسلام للمصطلح الدارج استعماله في وصف المشرق العربي و جواره، و ليس على طريقة المحبذ أو الداعية لفكرة الشرق الأوسط، و لا حتى لفكرة المصطلح بحد ذاته (15). و من هذه الموجة من عناوين المؤلفات التي ارتبطت منذ العام 1949 بمصطلح الشرق الأوسط و استمرت ـ و لكن من دون تحزب ـ في ارتباطها بهذا المصطلح الدارج خلال عقد الخمسينات ، و العقود التي تلته ، نُذكر القارئ الباحث بكتاب اليوزباشي صلاح محمد نصر ، و اليوزباشي كمال الدين الحناوي ، الذي صدر عن مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة عام 1949 بعنوان (الشرق الأوسط في مهب الرياح ) ، فمن خلال هذا الكتاب ] الذي اخترناه كعينة عن هذه الموجة من المؤلفات التي ارتبطت عناوينها بمصطلح الشرق الأوسط لمجرد كونه مصطلحاً دارجاً و طاغياً استعماله على الصعيد الدولي في وصف المشرق العربي و جواره [ سنتعرف على رأي الكاتبين ، نصر و الحناوي ، في مصطلح الشرق الأوسط الذي اختاراه عنواناً لكتابهما الذي شكل بداية هذه الموجة من المؤلفات التي تناولت بقلم كتاب مصريين مشاكل و أزمات المشرق العربي تحت عنوان (الشرق الأوسط).يقول الكاتبان نصر و الحناوي في مقدمة كتابهما (الشرق الأوسط في مهب الرياح) :"لم تتوفر لبقعة من بقاع الأرض في الماضي عوامل الاستقرار كما توفرت للمنطقة التي يحلو للبعض أن يدعوها بالشرق الأدنى و يحلو للبعض الآخر أن يدعوها بالشرق الأوسط 000 و هي في الواقع منطقة جغرافية واحدة، أو قريبة من أن تكون واحدة 000 ، و قد انحدرت إلينا تلك التسمية من البريطانيين ، و عليه فالشرق يكون أدنى ، أو أوسط و أقصى ، بالنسبة إلى الجزر البريطانية 000 ، أما بالنسبة لنا في مصر فنحن من صميم المنطقة 000 ، و قد تنقلت بعض البلاد بين تسميتين ، : فسوريا مثلاً كانت تعتبر إلى وقتٍ قريب من بلدان الشرق الأدنى، و لكنها عقب الأحداث الأخيرة اعتبرت من بلاد الشرق الأوسط. الأمر الذي يجعل الإنسان يتحير بين التسميتين ، و تختلط عليه الحدود الفاصلة بينهما ، حتى و لو كان من أهل الاختصاص 000 ، و العجيب أيضاً أن مصر تعتبر ـ رغم أنها دولة إفريقية ـ ضمن دول الشرق الأدنى أو الأوسط، و هي بذلك استثناء مما تعارف عليه الجغرافيون، ولكن ارتباطها بالإقليم ثقافياً و تاريخياً و دينياً و اقتصادياً منذ قديم العصور هو الذي أسبغ عليها هذه الصفة". "و الشرق الأوسط يتكون من إيران، و تركيا، و مصر، و سوريا، و فلسطين، و لبنان، و وادي دجلة و الفرات (أرض الجزيرة) و شبه الجزيرة العربية. أي بمعنى آخر البلاد و الدول الواقعة بين البحر الأسود و البحر الأبيض و البحر الأحمر و المحيط الهندي، مضافاً إليها مصر و إن لم تكن من البلاد الآسيوية 000" (16)
-2-التيار العربي المعارض لفكرة و مصطلح الشرق الأوسطفي الأربعينيات و الخمسيياتـ ساطع الحصري ـ :خلال هذه الفترة من سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت خلال عامي 1947 و 1948 بروز ظاهرة الترحيب و التعاطي بفكرة الشرق الأوسط من قبل بعض الأوساط الثقافية في القاهرة، إضافةً إلى بروز ظاهرة الأخذ بمصطلح الشرق الأوسط من قبل كتاب هذه المرحلة ممن تصدوا بمؤلفاتهم لواقع و مشكلات و آمال أقطار المشرق العربي في مرحلة ما بعد الحرب الثانية، بدأت تبرز للعيان وسط اللجنة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية الحديثة النشأة، و على صفحات الدوريات القاهرية، توجهات قومية مضادة لفكرة و مصطلح الشرق الأوسط، أو أية فكرة مماثلة تحشر أقطار المشرق العربي و المغرب العربي ضمن حظائر إقليمية لا تقوم على أساس من التاريخ أو من الجغرافية الطبيعية أو البشرية، و إنما على أسسٍ تتماشى مع مصالح و سياسات الدول الغربية في العالم العربي و بعض مناطق الجوار. و كانت هذه التوجهات القومية متمثلة حصراً بالمفكر القومي ساطع الحصري ، الذي بدأ منذ صيف عام 1948 بتوجيه مدفعيته الثقيلة ضد فكرة الشرق الأوسط. وكانت مُبادرة المنظمة الدولية للتربية و العلم و الثقافة (اليونسكو) التي تقدمت بها خلال ربيع عام 1948 من جامعة الدول العربية ، و التي تضمنت الترويج لفكرة إنشاء (مركز ثقافي خاص بالشرقين الأدنى و الأوسط) فرصة لإطلاق الحصري لمشروعه المضاد لفكرة الشرق الأوسط التي كان يجري ترويجها على قدمٍ و ساق من قبل الدوائر الأميركية و البريطانية ، و التي وجدت لها مروجين و أنصار داخل الأوساط الثقافية العربية في القاهرة و غيرها من العواصم. فخلال صيف عام 1948، و من خلال اللجنة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية التي كان يشغل فيها الحصري منصب (المستشار الفني) اعلن الحصري، خلال جلسة مناقشة مشروع اليونسكو الداعي لتأسيس مركز ثقافي إقليمي خاص بالشرقين الأدنى و الأوسط (17) ، عن معارضته لفكرة المشروع ، و الجهة الداعية إليه، لأن عدوى المصطلحات السياسية و التسميات التي تقسم العالم إلى حظائر إقليمية تتماشى مع سياسات و مصالح الدول الغربية ، قد انتقلت إلى المنظمة الدولية التي تُعنى بالتربية و العلم و الثقافة. و يذكر الحصري ] المدافع عن العروبة و العالم العربي و المعارض لفكرة الحظائر الإقليمية التي وزعت أقطار المشرق العربي بين شرق أدنى ، و آخر أوسط ، ثم جمعته مرة أخرى مع أقطار مجاورة ضمن شرق أوسط أوسع دائرةً من سابقيه [ بأن معارضته لمشروع اليونسكو الخاص بإنشاء مركز ثقافي إقليمي خاص بالشرقين الأدنى و الأوسط أثارت استغراب غالبية أعضاء اللجنة الثقافية ، رغم أنها معارضة علمية و قومية في آنٍ معاً (18). و مرد ذلك ، حسب الحصري ، كان يعود إلى واقعة تأثر زملائه في اللجنة المذكورة بالكتابات و الدراسات و الأبحاث التي كانت تصدر في أوروبا و أميركا عن الشرق الأوسط ، و هو تأثر جعلهم في غفلةٍ عن الحقيقة التي تقول بالبواعث السياسية التي كانت من وراء ترويج الدول الغربية لفكرة الشرق الأوسط. و حسب الحصري أيضاً فإن وجهة نظره عن البواعث السياسية المعادية للعالم العربي ، التي دفعت أوروبا و أميركا إلى شطب العالم العربي و إلحاقه ضمن حظيرة الشرقين الأدنى والأوسط ، لم تقنع هؤلاء بضرورة رفض مشروع اليونسكو ، و لكنها على كل حال حالت دون الموافقة عليه ، و هو أمر دفع وقتذاك بمدير عام اليونسكو ، جوليان هكسلي ، إلى وصف عدم اقرار اللجنة الثقافية العربية لمشروع المركز الثقافي الإقليمي الخاص بالشرقين الأدنى و الأوسط على أنه تردد نابع عن نزعة إقليمية ضيقة قائمة على أساس من الثقافة العربية وحدها0 و هذا الانطباع الذي سجله جوليان هكسلي في التقرير السنوي الذي قدمه إلى مؤتمر اليونسكو في نهاية عام 1948 دفع بدوره بالمفكر القومي العربي ساطع الحصري ، الذي كان من وراء إبطال مشروع اليونسكو ، إلى الرد على ما جاء في التقرير المذكور من خلال خطاب طويل وجهه إلى جوليان هكسلي في باريس ، و نشره بعد أيام في مجلة "الثقافة" القاهرية بتاريخ 10 و 17 كانون الثاني (يناير) 1949. و حسب خطاب المفكر القومي العربي إلى مدير عام اليونسكو فإن موقف المعارضة لمشروع إنشاء مركز ثقافي إقليمي خاص بالشرقين الأدنى و الأوسط لم يكن نابعاً عن إنعزاليةٍ ثقافيةٍ ، كما ورد في التقرير السنوي لمدير عام اليونسكو ، بقدر ما هو نابع عن فهمٍ صحيحٍ للمشاريع الغربية التي تربط الوطن العربي بالشرق وبالثقافة الشرقية ، و أيضاً بقدر ما هو نابع عن فهمٍ قوميٍ أصيلٍ يرفض فكرة الحظائر الثقافية الإقليمية الضيقة على حساب الثقافة القومية و الإنسانية الشاملة ، و يعبر بالتالي عن حقيقة فعلية و معاشة تؤكد بأن بلداً عربياً مثل سوريا هي أقرب من الوجهة الثقافية إلى تونس البعيدة جغرافياً منها إلى تركيا المجاورة، وبأن بلداً عربياً آخر مثل العراق هو أقرب من الوجهة الثقافية إلى مراكش البعيدة جغرافياً منه إلى إيران المجاورة (19).مع بداية الخمسينيات ، و إثرتعاظم تأثير مصطلح الشرق الأوسط على الحياة الثقافية العربية و بشكلٍ خاص على صعيد المكتبة العربية التي أصدرت طائفةً من الكتب و الأبحاث و المقالات و الخرائط التي تحمل اسم "الشرق الأوسط" ، بدأ الحصري في خوض معركة الدفاع عن فكرة العالم العربي من خلال الهجوم على فكرة الشرق الأوسط (20). و من خلال معركتَيْ الدفاع و الهجوم ، نشر الحصري على هذا الصعيد بحثين بعنوان "الشرق و الشرقيون" و "الشرق الأدنى و الشرق الأوسط" ، و أعاد نشرهما في وقتٍ لاحق من خلال كتابه (دفاع عن العروبة) الذي أصدره في بيروت عام 1955. ومن خلال هذين البحثين ، المضادين لفكرة الشرق الأوسط ، تجنب الداعية القومي ساطع الحصري الخوض في مواجهةٍ مع دعاة فكرة الشرق الأوسـط في الحياة الثقافية العربية ، التي أفرزت طابوراً من الدعاة الجهلة بحقيقة المصالح الاقتصادية و السياسية و العسكرية التي كانت من وراء تبني الغرب لفكرة الشرق الأوسط و تسويقه لهذه الفكرة في أقطار المشرق العربي ، بقصد محو فكرة العالم العربي من قاموس المفردات السياسية ، و من الذاكرة في آنٍ معاً. و اقتصر في بحثيه المذكورين على كشف حقيقة فكرة الشرق الأوسط التي نمت و ترعرعت في الدوائر الاستعمارية الغربية ، قبل تسويقها و نشرها على نطاقٍ واسعٍ ضمن الأوساط الأكاديمية و الفكرية في أوروبا و أميركا ، و في أقطار المشرق العربي فيما بعد.
-3-مظاهر التبني الرسمي و الأكاديمي العربي لمصطلح الشرق الأوسطخلال الستينيات والسبعينيات:شهد عقد الخمسينيات ، و العقود التي تلته ، بداية طغيان مصطلح الشرق الأوسط على صعيد الأوساط الفكرية و الثقافية و الأكاديمية العربية، و ذلك تمشياً منها مع المصطلح الدارج ، و استسلاماً أمامه و أمام مروجيه في الغرب ، رغم أن هذا الغرب ذاته كان الموطن الذي انطلقت منه بعض الأفكار العلمية المنكرة لفكرة الشرق الأوسط و لصحة استخدام مصطلح الشرق الأوسط 0 و من هذه الأفكار العلمية المنكرة لتعبير الشرق الأوسط ، و التي وصلت إلى المشرق العربي في حينها ، محاضرة مؤرخ العلوم الشهير ، البروفسور جورج سارتون ، التي ألقاها في مكتبة الكونغرس ، منذ بداية شهر آذار (مارس) 1950 ، بعنوان (حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية) (21) ، و التي يفصح من خلالها ، مؤرخ العلوم ، بأن مصطلح الشرق الأوسط ، الذي أصبح يُسوق عالمياً على صعيد الدراسات الخاصة بالتاريخ الحضلري و الثقافي ، هو "تعبير مضلل" و منافٍ على هذا الصعيد للحقيقة الواقعية و العلمية، لأننا كبشر و بحكم مواقعنا الجغرافية و مواطننا المختلفة و المتباعدة "شعوباً شرقيةً بالمقارنة مع جيراننا الغربيين، و غربيون بالمقارنة مع الشعوب التي تعيش إلى شرقنا" (22). و منافٍ بدوره للحقيقة التاريخية ، ولتاريخ الثقافة و الحضارة ، الذي يدحض فكرة ثقافة الشرق الأوسط، أو حضارة الشرق الأوسط. لأن ثقافة العرب و حضارة العرب ، حضارة كونية و ثقافة كونية ، وصلت شرقاً إلى الهند و أواسط آسيا حتى الصين، و وصلت غرباً إلى مراكش و إسبانيا، أي وصلت ـ قبل اكتشاف كولومبس ـ إلى أقصى طرفي العالم ، بحيث امتدت من الشرق الأقصى إلى المغرب الأقصى" (23) 0 و مثل هذه الثقافة ، و هذه الحضارة ، لا يجوز للغرب، حسب سارتون، تعليبها ضمن إطار جغرافي ضيق يقول بهذا الشيء الغريب ، الذي أصبح يطغى على الدراسات الخاصة بالتاريخ الثقافي و الحضاري ، و الذي بات يسمى بثقافة الشرق الأوسط ، و "حضارة الشرق الأوسط"كذلك الأمر أيضاً فقد شهد عقد الخمسينيات ، و العقود التي تلته ، بداية طغيان مصطلح الشرق الأوسط على صعيد الأوساط الثقافية و الفكرية و الأكاديمية العربية، رغم استنكار الداعية و المفكر القومي ساطع الحصري ، الذي عمل منذ نهاية الأربعينيات ، و بداية الخمسينيات، على إظهار ضلال فكرة الشرق الأوسط ، التي عمل على دحضها من وجهتي النظر العلمية و القومية، داخل المؤسسة الثقافية لجامعة الدول العربية، و ضمن الأوساط و المنابر السياسية و الفكرية و الثقافية العربية، باعتبارها فكرة منافية و مضادة لفكرة العالم العربي. و كذلك الأمر فقد شهدت هذه الحقبة أيضاً، استمرار ظاهرة طغيان استخدام مصطلح الشرق الأوسط على الصعيد الفكري و الثقافي العربي، رغم التحولات السياسية القومية، و التحررية، التي شهدتها بعض الأقطار المشرقية العربية منذ بداية الخمسينات، و بشكل خاص إثر العدوان الثلاثي البريطاني، الفرنسي، الإسرائيلي، على مصر عام 1956 ، و بروز المد القومي للزعامة المصرية، ممثلةً بشخص الرئيس جمال عبد الناصر، و تحقيق الوحدة بين مصر و سوريا عام 1958. و يستطيع الباحث المدقق من خلال دراسة هذه المرحلة التي شكلت العصر الذهبي للقومية العربية أن يكتشف ببساطة بأن استبعاد مصطلح الشرق الأوسط المنافي و المضاد لفكرة العالم العربي و الوطن العربي ، اقتصر فقط على اللسان الرسمي و البيان الرسمي للأقطار و الأحزاب السياسية ذات التوجهات القومية و التحررية ، التي استخدمت تعابير مثل العالم العربي ، و الوطن العربي ، و المشرق العربي ، و المغرب العربي. كما التزم بهذه التعابير الصحافة الرسمية و الحزبية ذات الاتجاه القومي ، وعدد ضئيل من الكتاب و الباحثين الذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة. أما بالنسبة إلى المؤلفات و الدراسات و الأبحاث التي كانت تتناول أحوال و شؤون المشرق العربي فقد سيطر على أقلام كتابها مصطلح الشرق الأوسط ، بما في ذلك الكتاب الذين تناولوا في مؤلفاتهم ، من وجهة النظر القومية و التحررية ، الأحوال و الأزمات التي كانت تعصف بالمشرق العربي قبل العدوان الثلاثي على مصر و بعده (24). كما سيطر بدوره المصطلح القديم (الشرق الأدنى) على ألسنة و أقلام أصحاب المؤلفات التاريخية التي أعدت للطلبة المصريين في المرحلتين الثانوية و الجامعية ، في وقتٍ كان فيه النظام السياسي في مصر الناصرية قد بلغ نقطة الأوج على صعيد خطابه القومي الذي ألهب المشاعر العربية من المحيط إلى الخليج ، و في ذلك دليل صارخ على مدى أثر المدارس التاريخية الغربية ، والثقافة الغربية ، و المفردات الغربية ، على الدراسات و الأبحاث الأكاديمية و غير الأكاديمية العربية ، ليس فقط على صعيد الدراسات و الأبحاث و المؤلفات التي تناولت التاريخ العربي الحديث و المعاصر الذي ظهر من خلاله مصطلح الشرق الأدنى و الشرق الأوسط (25) ، و إنما أيضاً على صعيد الدراسات و الأبحاث و المؤلفات التي تناولت الحملات و الحروب الصليبية في العصر الوسيط ، حيث جرى استبعاد تعبير المشرق العربي ، الذي كان مسرحاً للحملات و الحروب الصليبية في العصر الوسيط ، من هذه المؤلفات التاريخية العربية ، و الاعتماد عند الإشارة إلى هذه المنطقة و تاريخها على تعبير الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط (26) 0 وبلغ استخدام المثقفين و الأكاديميين العرب لمصطلح الشرق الأوسط منذ الخمسينات و بداية الستينات إلى حدٍ أثار استغراب و دهشة العديد من الباحثين الغربيين المهتمين بدراسة العالم العربي و منهم على سبيل المثال المستشرق البريطاني المعروف برنار لويس الذي ـ رغم انه من المدافعين عن مصطلح الشرق الاوسط ـ أبدى ] من خلال المحاضرة الأولى من سلسلة محاضراته الست التي ألقاها عام 1963 بجامعة أنديانا بالولايات المتحدة و نشرها بعنوان "الغرب و الشرق الأوسط" [ دهشته و استغرابه الشديدين لما بدأ يشهده من استخدام مفرط لتعبير الشرق الأوسط من قبل ابناء الشرق الاوسط ، رغم أن هذا التعبير يجب أن يكون موضع استنكار شعوب الشرق الأوسط، لا ترحيبها (27). * * *مع نشوب حرب حزيران (يونيو) 1967، و إثر الهزيمة و صدور القرار الدولي رقم 242 لعام 1967 ، تغيرت الصورة و اختلف المشهد الذي شهدنا من خلاله التزام الخطاب الرسمي في مصر الناصرية ، و بعض الأنظمة و الحركات و الأحزاب الوطنية و القومية العربية ، بتعابير مثل الوطن العربي و العالم العربي و المشرق العربي 000 إلخ ، و حل محله مشهد آخر عاد من خلاله تعبير الشرق الأوسط من جديد ، و بنفس جديد ، ليفرض نفسه بقوة لم يُعهد مثلها من قبل على الخطاب الرسمي و الشعبي العربي ، الذي بدأ بدوره يجتر صيغا و تعابير رائجة على الصعيد الدولي مثل (أزمة الشرق الأوسط) و (مشكلة الشرق الأوسط) و (السلام في الشرق الأوسط) و (مشاريع تسوية النزاع في الشرق الأوسط) (28) 000 إلخ. و إثر حرب تشرين الأول (أوكتوبر) 1973 التي شكلت نتائجها على الصعيد العسكري تقدماً عربياً مذهلاً ، قياساً مع نتائج الحرب التي سبقتها، زادت وتيرة تعاطي القلم العربي و اللسان العربي بصيغة الشرق الأوسط ، و أصبح الخطاب الرسمي و الشعبي العربي الذي استسلم لتعبير الشرق الأوسط إثر حرب حزيران (يونيو) 67 ، على طريقة استسلام المهزوم أمام مفردات و أدوات المنتصر، أصبح يُطلق العنان لمفرداته الشرق أوسطية بحيث لم يعد دوره قاصراً ،على هذا الصعيد على إجادة العزف على نغمات و إيقاع تعبير الشرق الأوسط، و إنما أصبح يُفرد على هذا الصعيد و يستحدث ، إذا جاز التعبير، أدب شرق أوسطي جديد يقول بـ (السلام العادل في حل مشكلة الشرق الأوسط) و (مشكلة فلسطين هي أساس مشكلة الشرق الأوسط) ، و يتحدث عن مشكلة المياه في الشرق الأوسط ، و تحقيق السلم و العدالة في ربوع الشرق الأوسط ، و عن مستقبل الشرق الأوسط (29) 000 إلخ. و على صعيدٍ آخر بدأ تعبير الشرق الأوسط يغزو القطاعات الإنتاجية العربية ، و التجارة ، و الإعلام المقروء و المسموع و المتلفز، و قطاع الخدمات و السياحة ، بدءاً من الشركات الوطنية و الأهلية الكبيرة ، حتى الشركات الفردية الصغيرة. فعلى صعيد قطاع النقل الجوي والبحري و البري أصبحنا نسمع بشركاتٍ كبرى و صغرى تحمل اسم طيران الشرق الأوسط، ونقليات الشرق الأوسط، و عبر الشرق الأوسط، و الشرق الأوسط للملاحة و النقل 000 إلخ ، و على صعيد الإعلام المقروء و المسموع و المتلفز ، و وكالات الأنباء العربية ، أصبحنا نسمع بشركاتٍ و وكالاتٍ رسميةٍ و وطنيةٍ تحمل اسم الشـرق الأوسـط مثل : وكالـة أنباء الشرق الأوسط ، تلفزيون الشرق الأوسط000 إلخ ، و بوجود مكاتب إعلاميـة و دوريات و صحف عربيـة تحمل اسـم "الشــرق الأوسـط"(30).
كاتب فلسطيني مقيم بسورية


المراجع :
(1) يتفرد أديب اسحق عن كُتّاب عصره من حيث كونه يتعاطى مع مصطلح (الشرق) رغم معرفته للإشكالات المتعلقة بالمصطلح بحد ذاته، و هي إشكالات دفعت بالعالم اللغوي الفرنسي لاروس في قاموسه الكبير - مطلب الشرق - و بديدرو و زملاءه من واضعي الأنسكلوبيديا -مطلب الشرق- إلى الشكوى من هذه التسمية ، لأن الكتاب الذين بحثوا في الشرق ذهبوا في تعريفه و تحديد معناه و مداه مذاهب شتى و مختلفة إلى حدٍ بعيد. كما يتساءل أديب اسحق في بحثه عن مدى صحة هذه التسمية: فنحن شرق ليس من وجهة نظر البحث الفلكي و إنما من وجهة نظر سكان الغرب الأوروبي الذين أطلقوا اسم الشرق على البلاد الواقعة إلى الشرق منهم.(2) يمكن العودة إلى هذه المقالات و الأبحاث العربية التي تناولت عناوينها "الشرق" و "الشرق والغرب" خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر من خلال العودة إلى المجلد الأول من الملف الذي صدر في دمشق عام 1991 بمجلدين عن وزارة الثقافة السورية بعنوان (الشرق و الغرب).(3) فيليب طرزي (مراجع ما نشر بعد الحرب العظمى عن بلدان الانتداب في الشـرق الأدنى) بيروت، الجامعة الأميركية، 1933.(4) صدر هذا الكتاب لأول مرة في بغداد عام 1932 عن "رسالة الأهالي" ثم أعاد المؤلف طبعـه ثانيةً في بغداد عام 1935. و خلال العام 1991صدرت طبعته الثالثة في دمشق من خلال سلسلة (قضايا و حوارات النهضة العربية) التي تصدرها وزارة الثقافة السورية.نضيف الى ماتقدم بان مصطلح الشرقين الادنى والاوسط طغى ايضا على الأبحاث والدراسات التي اصدرها المفكر والمؤرخ العربي العلامة الامير شكيب ارسلان مع مطلع الثلاثينيات ، كما نجده جليا في الأبحاث والدراسات التي الحقها بالطبعة العربية من كتاب ل. ستودارد (حاضر العالم الاسلامي) – الجزء الرابع – مثل دراساته " في التطور الاجتماعي " و " في التطور الاقتصادي " و " القلق الاجتماعي والبلشفية " . - حسن عبد العال (بريطانيا وفكرة الشرق الاوسط) مجلة الفكر السياسي ، دمشق ، العـدد المـزدوج (11،12) خريف ـ شتاء 2001 ، صفحة 167
على سبيل المثال خلال فترة تعامل بريطانيا العظمى مع هذين المصطلحين : ( الشرق الأدنى) و( الشرق الأوسط ) والتي امتدت نحو ربع قرن ( من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ، إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ) كثيرا ما كان يتغير توصيفهما وتتغير معالمهما الجغرافية في المذكرات والوثائق الرسمية البريطانية تبعا للتوجهات الجيوبولتيكية وللضرورات الحربية والجيوستراتيجية ، التي يعود لها أساسا الفضل الأول والأخير في تبني هذين المصطلحين منذ عقود دخلت . وعليه ، وتبعا لهذه التوجهات والضرورات كان الشرق الأدنى يتوسع أو يتقلص ، ويتحول بقدرة قادر إلى شرق أوسط ، كما كانت الأقاليم والدول التي تنتمي إلى حظيرة الشرق الأوسط تزداد أو تتقلص وتنكمش تبعا لهذه التوجهات والضرورات ، التي غالبا ما كانت تخلط هذه الحظائر التي ابتكرتها بعضها بالبعض الآخر . ومن الإشارات اللافتة للنظر على هذا الصعيد ما سبق ودونه رئيس الوزارة البريطانية السير ونستون تشرشل في مذكرة رسمية يعود تاريخها إلى يوم (6) آب (أغسطس) 1942 . فمن خلال هذه المذكرة ، التي تستجيب للضرورات الحربية والجيوستراتيجية البريطانية في الشرقين الأدنى والأوسط ، طالب تشرشل بإعادة رسم جديد لهذه المنطقة تصبح بموجبها الدول المشمولة بمصطلح الشرق الأدنى من دول الشرق الأوسط ، وبالتالي الدول المشمولة بمصطلح الشرق الأوسط من دول الشرق الأدنى ، وبموجب هذا التعديل الطارئ لخارطة الشرقين الأدنى والأوسط أوصى تشرشل – بعد التشاور مع رئيس هيئة أركان الحرب الأمبراطورية – بإعادة تشكيل قيادة الجيوش البريطانية في هذه المنطقة إلى قيادتين وفق الترتيب التالي :1- قيادة عسكرية للشرق الأدنى تضم مصر وفلسطين وسوريا تكون القاهرة مركزها .2- قيادة عسكرية للشرق الأوسط تضم إيران والعراق ويكون مركزها بغداد أو البصرة .وكان تشرشل قد كتب إلى ستالين رسالة قبل تدوين هذه المذكرة بأيام ( من تشرشل إلى ستالين : رسالة بتاريخ 1/6/1942 ) عبر فيها عن أحقية تصوره الجديد الذي يخطئ الاتجاه الذي يقول بأن مصر والمشرق وسوريا وتركيا هي من بلاد الشرق الأوسط ، لأنها في حقيقة الأمر تشكل الشرق الأدنى . كما يخطئ الاتجاه الذي يقول بأن إيران والعراق يشكلان الشرق الأدنى " لأنهما في حقيقة الأمر يشكلان الشرق الأوسط ، لا الأدنى ". ـ ونستون تشرشل ( تشرشل يتحدث عن الشرق ) بيروت ، مكتبة بيروت 1951 صفحة 18 و 19ـ حسن عبدالعال ( جغرافيا الخطوط السهلة الإزاحة ) ـ بمناسبة مرور مئة عام على ولادة مصطلح الشرق الأوسط ـ صحيفة المستقبل ( الملحق الثقافي الأسبوعي ـ نوافذ ) بتاريخ 16 حزيران 2002 .(5) من خلال هذا المركز و بواسطته سيطرت بريطانيا على العرب سيطرة اقتصادية خلال سنوات الحرب الثانية ، و كان لهذا الأسلوب وقع سيئ على الأقطار العربية التي بدأت تتحسب من الأفكار والمشاريع الغربية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط. و كانت آثار نشاط مركز تموين الشرق الأوسط على الأقطار العربية واحدةً من الأسباب التي دفعت بمصر و غيرها من أقطار المشرق العربي إلى رفض فكرة مشروع منظمـة الدفـاع عن الشرق الأوسـط الذي اقترحته الولايات المتحدة و بريطانيا وفرنسا و تركيا عام 1951 على أن تكون القاهرة مركز قيادته. و هو الأمر الذي دفع بأصحاب المشروع إلى اختيار جزيرة قبرص عام 1952 كمركز لقيادة المنظمة المذكورة بعد الرفض القاطع الذي أبدته مصر.(6) ظهر كتاب (حرب البترول في الشرق الأوسط) عام 1947 عن مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة و لاقى رواجاً دفع بمؤلفه لإصدار طبعة ثانية منه عام 1949 و ثالثة عام 1951 و رابعة عام 1953. و يعتبر هذا الكتاب من حيث عنوانه، و ليس مضمونه، من الكتب التي روجت لمصطلح الشرق الأوسط في مصر و بقية الأقطار العربية المشرقية. كما يُعتبر بدوره الكتاب الذي فتح الباب بعد تاريخ صدوره الأول لسلسلة من المؤلفات العربية التي صدرت في القاهرة و التزمت عناوينها بمصطلح الشرق الأوسط. مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن المؤلف الدكتور راشد البراوي لم يُشر لا من قريب و لا من بعيد من خلال المقدمات التي وضعها للطبعات ذات التواريخ المختلفة من كتابه ، ولا من خلال فصول كتابه ، عن الأسباب التي دفعته لتبني مصطلح الشرق الأوسط و اختياره عنواناً لكتابه رغم أن الضرورة كانت تدفع بذلك.(7) جمعية شؤون الشرق الأوسط (مشكلات الشرق الأوسط) القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1948، المقدمة صفحة 3 . مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن هذا المؤلف الجماعي الذي تضمن عدة أبحاث عن مشكلات بعض الأقطار المشرقية العربية احتوى بدوره على بحث عن باكستان رغم أن باكستان ليست من بلدان الشرق الأوسط كما ورد في مقدمة الدكتور البراوي للكتاب المذكور. و مثل هذا التساهل لم يحظ به بلد كالسودان كان يصنف في جمعية شؤون الشرق الأوسط كبلد خارج عن إقليم الشرق الأوسط. ففي العام 1951 أصدرت الجمعية المذكورة مجموعة أبحاث عن بعض بلدان الشرق الأوسط و السودان ضمن كتاب جماعي اختارت له عنوان (دراسات في السودان و اقتصاديات الشرق الأوسط).(8) أنجز هذا الكتاب خلال عام 1947 و ظهر في القاهرة بداية عام 1948 عن مكتبة النهضة المصرية.(9) البكباشي عبد الرحمن زكي (الشرق الأوسط)، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1948، المقدمة ـ المقدمة غير مرقمة ـ .(10) البكباشي عبد الرحمن زكي (الشرق الأوسط)، المقدمة(11) البكباشي عبد الرحمن زكي (الشرق الأوسط)، المقدمة(12) البكباشي عبد الرحمن زكي (الشرق الأوسط)، المقدمة(13) البكباشي عبد الرحمن زكي (الشرق الأوسط)، المقدمة(14) البكباشي عبد الرحمن زكي (الشرق الأوسط)، المقدمة(15) من هذه الموجة مجموعة من المؤلفات العربية التي تصدت بالدراسة لقضية فلسطين و الصراع العربي الإسرائيلي خلال عقد الخمسينات و الستينات، مثال على ذلك:ـ د. أحمد سويلم العمري (الشرق الأوسط و مشكلة فلسطين) القاهرة، دار الهلال، 1954.ـ علي محمد علي (إسرائيل و الشرق الأوسط) القاهرة، الدار القومية للطباعة و النشر، 1964.(16) يوزباشي صلاح محمد نصر، يوزباشي كمال الدين الحناوي (الشرق الأوسط في مهب الرياح) القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1949 الصفحات 1-4.(17) كان مشروع اليونسكو ينص بالتحديد على إقامة المركز الثقافي المذكور من مجموعة الدول الممثلة بجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى كل من تركيا و إيران و أفغانستان، أي كان يقوم على أساس من الفكرة البريطانية التي كانت تقسم المنطقة إلى إقليمين "أدنى" و "أوسط" رغم أن هذه الفكرة كان يُنظر إليها في لندن منذ عام 1946 على أنها فكرة قديمة استوجبتها ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى و سنوات الحرب الثانية التي أملت على بريطانيا ضرورة تقسيم المنطقة عسكرياً إلى شرقين أدنى و أوسط يكون للشرق الأدنى فيه قيادة عسكرية عليا و للأوسط قيادة عسكرية مماثلة . وفي العام 1948 الذي ظهر فيه مشروع اليونسكو لإقامة (مركز ثقافي إقليمي خاص بالشرقين الأدنى والأوسط) كانت لندن تتعاطى مع هذه المنطقة على أنها إقليم واحد، البعض كان يسميه الشرق الأدنى و البعض الآخر كان يطلق عليه تسمية الشرق الأوسط. و كذلك كان الأمر في أميركا.(18) تمثلت معارضة الحصري في ذلك الوقت لمشروع اليونسكو من الناحية العلمية من زاوية التفريق بين المناطق الثقافية التي ينسجم سكانها في مجالات اللغة و الثقافة و التقاليد و المصالح والآمال المشتركة، و المناطق الثقافية الخاضعة لتقسيمات جغرافية - طبيعية كانت أم سياسية - والتي لا يرتبط سكانها بالروابط التي تميز المناطق الثقافية كالعالم العربي مثلاً.أما معارضته من الناحية القومية فكانت من زاوية الحرص على الثقافة العربية التي أصيبت بالتبلبل من جراء سيطرة الثقافات الأجنبية، أو ثقافة المستعمر على الأقطار العربية، لأن الثقافة العربية أحوج إلى لم الشمل و اكتساب شخصيتها القومية و العصرية، لا إلى عودة اتصالها بالثقافات التركية والفارسية و إنما بزيادة اتصالها بالثقافة الأممية و الإنسانية ، و ليس بالشرقية.(19) ساطع الحصري (أبحاث مختارة في القومية العربية) القاهرة، دار المعارف، 1964، صفحة 168، بحث (الشرق الأدنى و الشرق الأوسط).(20) يقول الحصري في بحثٍ نشره عام 1961 [10/2/1961] بعنوان (حول القومية العربية) بأن فكرة الشرق الأوسط تعمل على أساس من ترك قسمٍ هامٍ من البلاد العربية خارج نطاقها، و بذات الوقت تعمل على ربط القسم الآخر من البلاد العربية ببلادٍ أخرى غير عربية. أما فكرة العالم العربي التي يجب أن تكون الفكرة السائدة في عموم الأقطار العربية فهي تقوم على النقيض من هذه التقسيمات الاستعمارية، على ربط المشرق العربي بمغربه ضمن عالمٍ واحدٍ هو العالم العربي. انظر:- ساطع الحصري (ابحاث مختارة في القومية العربية) – مصدر سبق ذكره – صفحة 483(21) ظهرت ترجمة عربية لهذه المحاضرة في كتابٍ مستقلٍ صدر في بيروت عام 1952 بعنوان (الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط) – 80 صفحة من القطع المتوسط، ترجمة المؤرخ عمر فروخ – ثم ظهرت المحاضرة ذاتها و الترجمة ذاتها بعنوان (حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية) في الكتاب الأميركي الجماعي الذي أعده البروفسور مجيد خدوري [من جامعة جونز هوبكنز] و الذي نشر بعنوان (الشرق الأوسط في مؤلفات الأميركيين) و صدر في القاهرة عن مكتبة الأنجلو المصرية عام 1953.(22) جورج سارتون (حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية) انظره في:- (الشرق الأوسط في مؤلفات الأميركيين) مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1953 صفحة 45.و يضيف البروفسور سارتون وفق هذه المعايير التي تحدد الشعوب والأمم ، الشعوب و الأمم الأخرى ، واقعها كغربية أو شرقية انطلاقاً من مركزها الجغرافي بأن أواسط آسيا و شرق المتوسط هي بدورها بلاد غربية بالمقارنة مع الشرق الأقصى . و في الماضي كانت كتب الصينيين التي تتحدث عن أواسط آسيا و شرق المتوسط تحمل عناوين مثل: هي – يو – ت أو – تشي، أي ( أخبار البلاد الغربية) -نضيف إلى البروفسور سارتون بأن الإغريق القدامى ، منذ زمن هوميروس [ق8 ق.م] و قبله ، كانوا يطلقون على السواحل التي اكتشفوها في شبه جزيرة إيطاليا تسمية (البلاد الغربية) ، و كما لاحظنا من قبل ] أنظر الهامش رقم (1) [ فإن أديب اسحق كان يقول منذ القرن الماضي بأننا نحن شرق ليس من وجهة نظر البحث الفلكي و إنما من وجهة نظر سكان الغرب الأوروبي الذين أطلقوا اسم الشرق على البلاد الواقعة إلى الشرق منهم.(23) جورج سارتون، نفس المصدر السابق، نفس الصفحة.(24) سبق و ذكرنا عينة من هذه المؤلفات – ] انظر الهامش رقم (15) [ .(25) شاهدنا على هذا الصعيد الخاص بالمؤلفات التي تناولت التاريخ الحديث و المعاصر كتاب المؤلفان محمد قاسم و أحمد نجيب هاشم الذي حمل عنوان (التاريخ الحديث و المعاصر). فمن خلال هذا الكتاب الذي اعتمدته وزارة التربية و التعليم في مصر و قررت تدريسه في مدارسها الثانوية في الستينات اعتمد المؤلفان في كتابهما على مصطلح الشرق الأدنى في إشارةٍ إلى المشرق العربي الخاضع للحكم العثماني و هذا الاستخدام لمصطلح الشرق الأدنى لم يرد في بعض فصول هذا الكتاب الرسمي و إنما ورد أيضاً في العناوين، مثال: الفصل الثالث من الباب الثامن الذي حمل عنوان "يقظة الشعوب في الشرقين الأدنى و الأقصى" صفحة 407، انظر:- محمد قاسم ، أحمد نجيب هاشم ( التاريخ الحديث و المعاصر ) دار المعارف بمصر، القاهرة ، 1965.(26) مثال على ذلك كتاب (الشرق الأوسط و الحروب الصليبية) للدكتور السيد الباز العريني أستاذ تاريخ العصور الوسطى في جامعة القاهرة –إصدار دار النهضة العربية، القاهرة 1963- فمن خلال هذا المقرر المقدم للطلبة في جامعة القاهرة –قسم التاريخ- يلجأ المؤلف إلى مصطلح الشرق الأوسط في إشارةٍ منه إلى المشرق العربي ليس من خلال فصول الكتاب و إنما من خلال عنوان الكتاب رغم أن هذا الحقل من الدراسات التاريخية يتطلب بالضرورة الإشارة إلى هذه المنطقة من العالم باسم (المشرق العربي).مثال آخر كتاب (لويس التاسع في الشرق الأوسط) للدكتور جوزيف نسيم يوسف أستاذ تاريخ العصور الوسطى في جامعة الإسكندرية – إصدار مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1959 ـ و هو من الكتب التي أرخت للحركة الصليبية من خلال تغطية نشاط الملك الفرنسي لويس التاسع في هذه الحركة و فيه استبدل المؤلف المشرق العربي بـ "الشرق الأوسط".- إضافةً إلى الدكاترة العريني و يوسف فإن غالبية أساتذة العصور الوسطى في جامعتي القاهرة والإسكندرية يلجأون منذ الستينات بدورهم و في أغلب الأحيان إلى مصطلح الشرق الأدنى في إشارةٍ منهم في مؤلفاتهم الجامعية إلى المشرق العربي. و هي إشارة لا ترد فقط في النص و إنما في العناوين الفرعية و عناوين بعض الفصول، مثال:- د. سعيد عبد الفتاح عاشور (تاريخ العلاقات بين الشرق و الغرب في العصور الوسطى) القاهرة، دار النهضة العربية، 1972. الفصل الرابع "الشرق الأدنى في أواخر القرن الحادي عشر" و قس على ذلك.(27) برنار لويس (الغرب و الشرق الأوسط) – بيروت 1965 ، ترجمة د. نبيل صبحي ( لا ذكر للناشر ) صفحة 3(28) على سبيل المثال على صعيد الأبحاث و الدراسات أصبح قراء مجلة (السياسة الدولية) التي تصدر عن مؤسسة الأهرام بالقاهرة يألفون منذ نهاية الستينات في هذه الدورية العربية المرموقة عناوين دراساتٍ و أبحاثٍ مثل:- بطرس بطرس غالي "القضايا العشر في تسوية أزمة الشرق الأوسط"، السياسة الدولية، القاهرة، العدد 24، نيسان (أبريل) 1971.(29) يلفت نظرنا على صعيد هذه المرحلة الأستاذ محمود رياض الذي شغل منذ عام 1958-1964 منصب مستشار الرئيس عبد الناصر للشؤون السياسية ثم أصبح منذ عام 1964 وزيراً للخارجية في عهد عبد الناصر فمن خلال مذكراته السياسية ، التي نشرها عام 1981 –صدرت في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر- اختار الأستاذ رياض لمذكراته التي غطت السنوات 1948-1978 عنوان (البحث عن السلام و الصراع في الشرق الأوسط) ، أي حلت عبارة "الصراع في الشرق الأوسط" محل العبارة التي كانت تستخدم رسمياً في مصر الناصرية "الصراع العربي الإسرائيلي".(30) لم يقتصر طغيان مصطلح الشرق الأوسط على الحياة الرسمية و الشعبية العربية بل امتد حتى شمل بدوره الحياة الروحية و لعل ما بات يعرف بـ (مجلس كنائس الشرق الأوسط) خير دليلٍ على تغلغل هذا المصطلح على صعيد التنظيمات الكنسية في المشرق العربي.

حسن عبد العال

باحث فلسطيني مقيم في سوريا
موبايل:00963944094429


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق