الاثنين، 4 مايو 2009

استذكار هيغل:سنوات هيغل الاخيره


استذكار هيغل :سنوات هيغل الأخيرة


حسن عبدالعال



4-5-2009م


في العام 1826 بدأت تشهد برلين بداية التنظيم الفعلي للحركة الهيغلية التي كانت تعتمد في الدرجة الأولى على الحشد الدائم من تلامذة الفيلسوف هيغل الذين كانوا يشكلون نواة المدرسة الهيغلية ، والذين أصبح منهم فيما بعد المحاضر وعالم اللغة والمؤرخ وأستاذ القانون والمفكر الإستراتيجي والمستشار الحكومي وعالم الجمال.....الخ . وكان احتفال يوم 27 آب ( أغسطس ) من العام نفسه 1826 بداية الحركة الهيغلية ، ففي هذا اليوم الاحتفالي الكبير الذي أقامه الهيغليون في برلين بمناسبة عيد ميلاد فيلسوفهم السادس و الخمسون ، و الذي امتد حتى اليوم التالي للاحتفال بعيد ميلاد شاعر ألمانيا القومي الأول يوهان فولفجانج فون غوته * تكونت العصبة الأولى من الهيغليين و قررت في اجتماع لاحق عقدته خلال شهر تشرين الأول ( أكتوبر ) من نفس العام تشكيل جمعية هيغلية للنقد العلمي و دورية تحمل اسم ( حوليات النقد العلمي ) مهمتها شرح الفلسفة الهيغلية و نشرها في ألمانيا . و هذا ما قام به الأستاذ " جانس " تلميذ هيغل ـ و أستاذ ماركس اللاحق ـ من خلال تأسيسه و إدارته ( حوليات برلين للنقد العلمي ) التي كان يسهم فيها الهيغليون جميعا و على رأسهم أستاذهم الوقور الفيلسوف هيغل . فمن هذا الإطار المتخرب حوله و المنطوي تحت جناحيه كان الفيلسوف هيغل يعمل على نشر الهيغلية و تنظيمها ، و ليس بالاعتماد على تأييد الحكومة البروسية و دعمها له ، و إن كان لا يتوانى عن قصدها في بعض الأحيان . كما في سعيه الذي لم يكتب له النجاح لحمل وزير المعارف البروسية الفون التنشتاين على إصدار مجلة رسمية ناطقة بلسان الفلسفة الهيغلية . وعندما توفي هيغل عام 1831 خلف وراءه حزبا مهيبا من المثقفين و المفكرين و الفلاسفة الهيغليين الألمان أصبحت الرجعية البروسية تخشاه خاصة بعد ثورة عام 1830 الفرنسية و تفاعلاتها الألمانية التي جذرت من المواقف السياسية للحركة الهيغلية التي رمت وراءها الجانب المهادن و المتصالح من مذهب المعلم و تقدمت لتنهل من الجانب الثوري الهدام في فلسفته الجدلية التي سبق و حبسها هو نفسه في قمقم : " فبعد وفاة موسى الألماني من الذي سيسطر على الحياة التي عاد و أطلقها من جديد صياح الديك الفرنسي "IIكان العامان الأخيران من حياة الفيلسوف هيغل يتميزان بالإرهاق الشديد و اعتلال الصحة و القلق فاستقال عام 1830 من منصبه الجديد كرئيس لجامعة برلين لصالح صديقه الفيلسوف الهيغلي مارهاينكة. و كان السبب الرئيسي في اعتلال صحته يتمثل بقيام ثورة تموز ( يوليو ) 1830 في الجارة فرنسا الواقعة على الضفة الأخرى من نهر الراين ، و هي الثورة التي بثت القلق و الاضطراب في نفسه و هو الفيلسوف العظيم الذي كان ينشد التغيير و الثورة في شبابه . و ظل هيغل على هذه الحالة من البؤس و القلق حتى جاءه الخبر الصاعق على لسان ولي العهد البروسي الذي دعاه لعشاء خاص معه خلال صيف عام 1831 و أبلغه بأن تلميذه الديماغوجي الأستاذ "جانس" المشمول بحمايته و رعايته الأدبية و الأكاديمية ، و المكلف من قبله بتدريس مبادئ فلسفة الحق الهيغلية ، يقوم بتدريس هذه الفلسفة السياسية على أساس من ميوله الجمهورية و وفق نزعاته التحررية . و خلال هذا اللقاء الذي قصم ظهر الفيلسوف أبدى هيغل اعتذاره الشديد لولي العهد و وعده بأنه سيعالج هذا الأمر في القريب العاجل وبأنه سيباشر بنفسه إلقاء هذه الدروس بدءً من الفصل الخريفي القادم ، و لم يكن وقتها يعلم بأن الموت سيحول بينه و بين الوفاء بهذا الوعد.توفي هيغل بشكل مفاجئ للجميع في تمام الساعة الخامسة و الربع من مساء يوم الاثنين الواقع بتاريخ 14 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1831 في منزله ببرلين من جرّاء إصابته بمرض الكوليرا ** و دفن يوم الأربعاء عند الساعة الثالثة من عصر يوم 16 تشرين الثاني إلى جوار سلفه الفيلسوف فيشته ] بناء على وصيته الأخيرة [ بعد أن شهدت شوارع برلين ، التي شيعت عن بكرة أبيها فيلسوفها الألماني العظيم موكباً جنائزيا مهيباً انطلق من حرم جامعة برلين حيث ألقى تلامذته و أصدقاؤه النظرة الأخيرة على فيلسوفهم في الوقت الذي بدء فيه صديقه و تلميذه الفيلسوف اللاهوتي مارهاينكة يلقي على مسامعهم و باسمهم جميعا خطبة الوداع الأخير .و في المقبرة حيث لم تسمح السلطات البروسية بإلقاء خطبة ثانية إلا مضطرة خوفا من نقمة الجمهور المحتشد الذي لا تبدو له نهاية منظورة ، ألقى صديق الفيلسوف المسجى المستشار الحكومي الهيغلي "فيرستر" كلمة تأبينيّة مؤثرة ختمها بعبارة في غاية التحدي : " اقتربي ما استطعت يا مبادئ العبودية و الظلامية فلسنا نخشاك لأن روحه ستكون معنا" .إنها الروح الهيغلية ، روح المناقضة و السلب الذي يدفع دائما إلى الأمام . إنها الروح النافية لكل وجود مخالف للعقل ، الروح التي عبر عنها الشاعر الألماني العظيم "غوته" في رائعته الخالدة (فاوست) على لسان بطله مفستوفوليس الناطق الرسمي باسم السلب :" أنا جزء من تلك القوة التي تريد الشر دائما و تفعل الخير دائما ، أنا الروح التي تنفي دائما و هذا بحق . فكل ما هو موجود جدير بأن يدمر "IIIبعد وفاة هيغل عام 1831 بدأ بعض الفلاسفة و الأساتذة من تلامذته و أصدقائه في التحضير لمشروع إصدار المؤلفات الكاملة لفيلسوفهم الراحل بهدف المحافظة على تراثه غير المنشور و تجنيبه من خطر الضياع . و شكلت على هذا الصعيد لجنة خاصة قامت بتوزيع المهام بين أعضائها الذين قاموا بين عام 1832 و عام 1845 بإصدار الطبعة الأولى الكاملة من مؤلفات هيغل التي اقتصرت وقتها على ثمانية عشر جزءً احتوت على المؤلفات التي نشرها و جاهر بها خلال حياته العملية مثل (ظاهريات الروح) و (المنطق) و (موسوعة العلوم الفلسفية) و (فلسفة الحق) إضافة لبعض الكراريس و الأبحاث و الدراسات التي سبق له نشرها من قبل . كما احتوت على محاضراته الشهيرة التي ألقاها على طلابه خلال المرحلة البرلينية (1818-1831) في فلسفة التاريخ و تاريخ الفلسفة و في علم الجمال و فلسفة الدين . إضافة لبعض المحاضرات و الدروس التي سبق له إلقائها على طلابه في بعض المدارس و الجامعات الألمانية خلال المرحلة ما قبل البرلينية من حياته ، مثل دروسه التي وضعها لطلبة ثانوية نورنبرغ و التي نشرها كارل روزنكرانتس ، ضمن المجلد الثامن عشر تحت اسم (المدخل الفلسفي) .و كان نشر المحاضرات البرلينية – و غير البرلينية – يعتمد أساسا على الكراسات التي خلفها وراءه الفيلسوف بعد وفاته و عثر عليها ضمن أوراقه الخاصة ، إضافة إلى دفاتر الطلبة الجامعيين الذين كانوا يدونون المحاضرات الشفهية التي كان يلقيها الفيلسوف على مسامعهم ، و هذه الدفاتر لم تستخدم فقط في تجميع محاضرات هيغل خلال حياته العلمية في برلين و إنما استخدمت أيضا لنشر بعضها كإضافات على دروس هيغل في أقسام موسوعة العلوم الفلسفية و مبادئ فلسفة الحق . و استنادا إلى هذه الطريقة التي تم اعتمادها بخصوص نشر مؤلفات هيغل قام "جانس" بنشر إضافات طويلة على كتاب (مبادئ فلسفة الحق) كما قام "هينيغ" بنشر إضافات على الجزء الأول من موسوعة العلوم الفلسفية الخاص بـ (المنطق) و نشر "ميشليه" إضافات على الجزء الثاني الخاص بـ (فلسفة الطبيعة) و بدوره قام "بومان" بنشر إضافات على الجزء الثالث الخاص بـ (فلسفة الروح) . أما بالنسبة للمحاضرات التي ألقاها الفيلسوف الراحل على مسامع طلابه في جامعة برلين و التي شكلت أكثر من نصف حجم الطبعة الأولى من مؤلفات هيغل الكاملة فقد قام الفيلسوف اللاهوتي "مارهاينكة" بدء من عام 1832 بنشر محاضرات هيغل في (فلسفة الدين) ضمن مجلدين ، أما الفيلسوف "ميشليه" فقد قام بنشر محاضرات هيغل في (تاريخ الفلسفة) بدء من عام 1833 ضمن ثلاثة مجلدات ، و بدوره أيضا قام عالم الجمال "هوتو" بنشر محاضرات أستاذه في (علم الجمال) ضمن ثلاثة مجلدات بدء من عام 1837. أما الأستاذ "جانس" فقد عني بنشر محاضرات هيغل في (فلسفة التاريخ) و نشرها عام 1837. و كانت هذه الطبعة الأولى من مؤلفات هيغل الكاملة لا تتضمن رسائله التي لم ترى النور إلا بعد مضي أربعين عاما و نيف على إصدار المجلد الأخير منها، عندما أقدم كارل هيغل على نشر رسائل والده في لايبزيغ عام 1887، و بدورها أيضا فإن مؤلفات مرحلة الشباب لاقت نفس المصير و لم ترى النور إلا مع نهاية القرن قبل الماضي عندما نشر قسم منها غ. مولات عام 1793، و في بداية القرن المنصرم عندما قام هرمان نول في توبنجن عام 1907 بإصدار (كتابات هيغل اللاهوتية لفترة الشباب). أما دروس " يينا " ـ نسبةً إلى جامعة يينا ـ فبدورها تأخرت عن الظهور حيث ألحقت بالطبعة الناقدة لمؤلفات هيغل الكاملة التي شرع بها منذ عام 1905 كل من ج. لاسون، وي. هوفمايستر و صدرت في لايبنريغ , و تضم مؤلفات هيغل الحالية نحو ثلاثين مجلدا.
* كان هيغل يرتبط بصداقة مع غوته ، و هو الأمر الذي دفع تلامذته الذين يحتفلون كل عام بعيد ميلاد فيلسوفهم للاحتفال بالصداقة التي تربط بين زفسا أولمب الفكر الألماني . و صادف أن غوته ولد يوم 28 آب (أغسطس) في حين ولد هيغل يوم 27 آب. فصار احتفال يوم 27 آب يمتد حتى يوم 28 منه للاحتفال بعيد ميلاد غوته.

** حول وفاة هيغل، جاء في رسالة زوجته ماريا فون توشر إلى شقيقته كريستيانا التي كانت تعالج في إحدى المصحات " ..... و في صباح يوم الاثنين (14 نوفمبر) أراد النهوض ، فجئنا به إلى غرفة المعيشة المجاورة ، لكنه كان من الضعف إلى درجة أنه ..... ، و حضر الطبيب في الصباح الباكر و أمر كاليوم السابق بوضع عجينة خردل على أسفل البطن . و قبل الظهر أصبحت تصدر عنه زفرات ...... ، ثم استدعي طبيب آخر ... ، في الساعة الثالثة بعد الظهر بدأت تصدر تشنجات في الصدر ، تلاها نوم هادئ . لكن هذا النوم الهادئ كان مصحوبا بسريان برودة على الصدغ الأيسر و على اليدان اللتان أصبحتا تميلان إلى الزرقة .... جثونا عند سريره و بدأنا نتحسس أنفاسه .... لقد راح في سبات كائن شعشعاني" .
صحيفة النور السوريه23\7\2003م



حسن عبد العال






موبايل:00963944094429


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق