الخميس، 7 مايو 2009

نابليون امبراطورا:حسن عبد العال

نابليون امبراطوراً
حسن عبدالعال
7-5-2009م
بمناسبة مرور 200 عام على بدء مراسم تتويجه :
منذ مائتي عام وفي مثل هذه الأيام من شهر كانون الأول ( ديسمبر ) من العام 1804 تم تنصيب الجنرال نابليون بونابرت امبراطورا مدى الحياة على فرنسا والفرنسيين.ـ 1 ـلم يكن أحد ليتصور بأن أحد ابناء العائلة الكورسيكية الصغيرة التي حملت السلاح وقاتلت الجنود الفرنسيين بهدف طردهم من الجزيرة سيصبح امبراطورا على فرنسا والفرنسيين بعد ثلاثة عقود على انخراط أمه لتيشيا رامولينو ( 1750 0 1836 ) وابيه المحامي شارل بونابرت ( 1745 – 1785 ) في حملة المقاومة العسكرية الكورسيكية للوجود الفرنسي على أرض الجزيرة 0 ولعل هزيمة الثورة الكورسيكية التي قادها الزعيم الكورسيكي الفار ( فر إلى انكلترا ) باسكال باولي ، واضطرار المحامي الشاب شارل بونابرت للتكيف مع الظروف الجديدة وانخراطه الطوعي في خدمة وادارة المزارع التي كانت تتبع الأملاك الشخصية العائدة للملك لويس السادس عشر في كورسيكا ، كانت بمثابة الأرضية التي مهدت فيما بعد لتثبيت اقدام نجله نابليون على الأرض الفرنسية وأطلقته بفضل ذكائه حينا ، وبمساعدة وتدخل الظروف المؤاتية أحيانا أخرى لاحتلال المراكز العسكرية الرفعية وقيادة الحملات العسكرية الخارجية التي اهلته بعد الحملة المصرية الشهيرة وعودته إلى البر الفرنسي للانقضاض على السلطة واحتلال منصب القنصل الأول والحاكم المطلق الصلاحية ، وفيما بعد تتويج نفسه امبراطوراً مدى الحياة 0 فبحكم انتماء بونابرت الأب لعائلة أرستقراطية من اصول توسكانية ( نسبة إلى مقاطعة توسكانيا في ايطاليا )0 وبمساعدة من ديوان الملك الذي أقر بصحة الوثائق التي تشير إلى الانتماء الأرستقراطي للمحامي شارل بونابرت ولأولاده ، انتسب نابليون الابن الثاني لشارل بونابرت إلى مدرسة بريين الحربية الابتدائية عام 1777 وكان له من العمر 8 سنوات ، ومنها إلى مدرسة باريس الحربية العليا التي أهلته عام 1787 ، وبرغم صغر سنه ، لدخول الجيش الفرنسي باختصاص ضابط مدفعية وبمرتبة ملازم ثان في فرقة مدفعية متمركزة بالقرب من غرونوبل0
ـ 2 ـاضافة إلى المفارقة التاريخية المـتأتية عن وصول ابن أسرة كورسيكية صغيرة التصق تاريخها الأول بالمقاومة المسلحة للفرنسيين إلى حكم فرنسا بالطرق الدستورية التي مكنته من بسط السيطرة والنفوذ بطريقة لم يصل اليها أي ملك في تاريخ فرنسا في ظل النظام القديم ، فان السنوات الأولى من عمر الملازم بونابرت تشير إلى مفارقة أشد غرابة ، فالضابط المدفعي الكورسيكي الأصل والإنتماء بقي خلال سنواته الأولى في سلاح المدفعية مسلحاً بايمانه بتحرير كورسيكا ويكن كرهاً شديدا لفرنسا والفرنسيين 0 وحتى عندما اجتاحت فرنسا رياح الثورة في أيام تموز الثورية من عام 1789 ، وأعلن عن انتصار الثورة في 14 تموز بفضل هوس التحرر عند الفرنسيين ، كما يقول المؤرخ البريطاني ج.م تومبسون 0 فان الهوس المذكور الذي مس شيطانه كل الشعب الفرنسي الناقم على النظام القديم لم يصل تأثيره إلى الضباط بونابرت حتى في هذا اليوم التاريخي ، 14 تموز ، الذي هز المملكة الفرنسية من اقصاها إلى اقصاها 0 بحيث لم يمسه قط لامن قريب أو بعيد هوى وهوس التحرر الذي اصاب الفرنسيين من أتباع الطبقة الثالثة ولم ينتشِ لانتصارها قط 0 بنفس القدر الذي لم يرعبه انتصار الطبقة الثالثة الذي أرعب ممثلي طبقة الاكليروس وطبقة النبلاء وأنصار الملكية المطلقة . لأنه كان في هذه المرحلة المبكرة من عمر الثورة الفرنسية بعيداً عن أي اهتمام بتعلق بمصائر الفرنسيين وأنظمتهم ، فالأمر سيان عنده سواء سقط النظام القديم ام انتصر ، كذلك الأمر بالنسبة للطبقة الثالثة فالأمر سيان عنده سواء تحقق لها النصر أو منيت بالهزيمة0في هذه المرحلة المبكرة ، مرحلة الشهور الثلاث الأولى من عمر الثورة الفرنسية ، كان الملازم بونابرت مازال يشعر بأنه يخدم في صفوف جيش أعدائه الفرنسيين ، تماما كما كان يشعر من قبل عندما كان يدرس في مدرسة بريين الحربية الابتدائية ومدرسة باريس الحربية العليا بأنه يدرس فوق أرض معادية ، لأنه مازال كما كان من قبل كورسيكا بكل كيانه ، كورسيكي بلحمه ودمه وروحه ، ولأنه كذلك كان منذ طفولته يحلم أن يصبح ضابطا كورسيكياً ليحرر وطنه من المحتلين الفرنسيين الذين هزموا الزعيم باولي وأنصاره قبل عدة شهور من مولده الذي صادف منتصف شهر آب ( أغطس ) من العام 1769 0 وعندما كان في سنوات طفولته الأولى يلعب مع اقرانه بالبنادق والسيوف الخشبية كان يحرص دائما على القيام بدور الضابط الذي يقود الجنود الكوسيكيين أثناء حملات الاغارة على الفرنسيين 0 ففي هذه المرحلة ، مرحلة الشهور الثلاث الأولى من عمر الثورة الفرنسية ، كان الملازم بونابرت مازال يحلم أن يتحقق له الفصل الثاني من حلم طفولته بعدما تحقق له الفصل الأول وأصبح ضابطا مدربا ومؤهلاً للقيادة0ـ 3 ـهذا الموقف السلبي حيال الثورة والمعادي لفرنسا والفرنسيين من قبل الملازم بونابرت لم يدم طويلا 0 فبعد صدور مرسوم حكومة الثورة الصادر في باريس بتاريخ 30 تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1789 ، بناء على نصيحية وتوصية " ميرابو " والقاضي بالغاء جميع القوانين والأنظمة الملكية السابقة التي تعتبر جزيرة كورسيكا من قبيل الممتلكات التابعة للتاج الفرنسي0 والعمل بالأنظمة والقوانين الجديدة التي تنص على اعتبارها مقاطعة حرة من مقاطعات المملكة الديموقراطية الفرنسية الجديدة والاعتراف لأهالي الجزيرة بحقوق المواطنة في المملكة الفرنسية وبعد اعلان حكومة الثورة في باريس عن الغاء وابطال جميع القرارات والاجراءات السابقة الخاصة بملاحقة الزعيم الوطني الكورسيكي " باسكال باولي " وأنصاره الفارين ، تغيرت نظرة الملازم بونابرت لهذا العهد الفرنسي الجديد الذي أنصف وطنه ومواطنيه بعد ثلاثة شهور على بدء الثورة التي لم تتناساهم اعترفت لهم بحقوقهم أنصفت زعمائهم وقادتهم الوطنيين . فعدل عن موقفه السلبي السابق تجاه الثورة ونزع من داخله حقده الدفين على فرنسا والفرنسيين ، ولكن قلبه لم يكن ليتسع سوى لحب واحد وحيد ، حب كورسيكا0خلال هذه الفترة التي كانت تتطلب من الملازم بونابرت إبداء ولائه الظاهر للثورة الفرنسية حتى يستطيع المساهمة بواجبه تجاه وطنه الكورسيكي وصيانة ما تحقق له من مكتسبات ، بدأ بونابرت بمشروعه الكورسيكي الذي كان يهدف إلى ضم صوت كورسيكا إلى صوت المقاطعات التي أعلنت الانضمام إلى الثورة 0 وخلال هذه المرحلة التي بقي بها في الجزيرة ( مستفيدا من الاجازات العسكرية التي منحت له استثنائيا من قبل قائد فرقته ) بدأ مشروع بونابرت يصطدم بمعارضة ومقاومة الزعيم باولي الذي عاد مع أنصاره إلى الجزيرة0 ومن خلال هذا الصدام بين مشروع بونابرت وأنصاره ، ومشروع باولي الذي كان يهدف إلى ضم كورسيكا إلى التاج البريطاني ، بدأت تترسخ خيارات بونابرت الفرنسية 0 وهي خيارات دفعت به بالضرورة إلى الانخراط في جبهة الدفاع عن الثورة الفرنسية في كورسيكا وفوق الأرض الفرنسية0
مدفعي طولون وتير ميدور : - 4-بعد أربع سنوات من الصراع المتقطع فوق أرض الجزيرة بين نابليون و أنصاره من جهة ، و دعاة " الخيار البريطاني " الذي كان يتزعمه باولي من جهة ثانية انتصر باولي و هزم بونابرت الذي فر مع أفراد أسرته من الجزيرة و توجه إلى ميناء طولون و منها إلى مارسيليا مع بداية النصف الثاني من شهر آب (أغسطس) 1793 ، أي قبل أسبوع من تعرض ميناء طولون للاحتلال من قبل الأسطول الإنكليزي الذي قدم الفرصة التاريخية النادرة للمدفعي نابليون بونابرت الذي قدمت له محطة طولون نقطة الانطلاق و لحظة الصعود نحو الإمبراطورية . فالنقيب نابليون بونابرت التحق بالفرقة المدافعة عن طولون و أسهم عبر وساطة صديقه الكونفنسيوني " ساليستي " بإقناع لجنة السلامة العامة اليعقوبية بزعامة روبسبير بخطته و التي تقضي بجلب كل ما كانت تملكه الجيوش الفرنسية من مدفعية ثقيلة بعيدة المدى وتوزيعها على المرتفعات المطلة على الميناء لطرد قطع الأسطول الإنكليزي خارج المياه الإقليمية الفرنسية . خرج نابليون ، الذي كلف بقيادة الهجوم المدفعي على الأسطول الإنكليزي الراسي فوق مياه طولون من الحرب المذكورة منتصرا على أسياد خصمه باولي و حاز على رتبة " لواء" ـ قلده إياها الزعيم روبسبير في احتفال رسمي ـ و هي الرتبة التي باتت تجيز له قيادة الفرق والجيوش في الجمهورية الفرنسية . و هو الأمر الذي لم يتيسر له كما كان متوقعا في عهد اليعاقبة الذين أبعدوا عن السلطة بفضل انقلاب التاسع من تيرميدور (1794) و استيلاء الحركة التيرميدورية ، ممثلة بالمؤتمر الوطني ( التيرميدوري) ، على السلطة التي بدأت بتصفية الحركة الشعبية و تنظيماتها ، و شكلت بالتالي بداية الردة البورجوازية السياسية و الاجتماعية . و رغم ذلك فإن الفرصة التي خسرها نابليون بفعل الانقلاب التيرميدوري المذكور ربحها بدوره بفضل المصاعب التي بدأت تواجه المؤتمر الوطني التيرمدوري إثر إندلاع الثورة الملكية المضادة المدعومة من قبل التاج البريطاني في بداية تشرين الأول (أوكتوبر) من العام 1795 ، و اضطرار المؤتمر الوطني لوضع يده بيد اللواء بونابرت صاحب نظرية " استخدام مدفعية الميدان في حرب الشوارع " لسحق الثورة الملكية0 و هي المهمة التي أعادت الاعتبار للجنرال بونابرت خاصة بعد نجاحه في استخدام المدفعية وفرق الخيالة في صد الهجوم الملكي الذي اجتاح باريس صبيحة يوم 13 فانديميير من السنة الرابعة (يوافق 5 تشرين الأول ، أوكتوبر ، 1795 ) و نجاحه في الانتقال من الدفاع إلى الهجوم وفق إيقاع سريع و متواصل توج بانتصار بونابرت و هزيمة الملكيين مع اقتراب فجر اليوم التالي .
الحملة الإيطالية والمصرية : - 5 -كان لابد بعد حماسة المؤتمر الوطني التيرميدوري و حكومة المديرين ، ( التي أعلن عن قيامها في اليوم التالي الذي أعقب النصر على الثورة الملكية ) من حصول بونابرت على فرصته التاريخية التي تؤهله لقيادة احد الجيوش العاملة فوق الأرض الفرنسية . و كان له ذلك بفضل معونة المدير العام لحكومة المديرين " باراس " الذي سبق له الفضل في اتخاذ حكومة المديرين قرارها بتعيين الجنرال بونابرت حاكما عسكريا لباريس و قائداً أعلى لقوات الأمن الداخلي . و كانت هدية باراس و حكومة المديرين تتمثل هذه المرة بقرارها الصادر في 8 آذار (مارس) 1796 القاضي بتعيين الجنرال نابليون بونابرت قائدا عاما لجيش إيطاليا 0 و هو القرار الذي عكس موافقتها على الخطة التي وضعها بونابرت لاحتلال إيطاليا و ذلك بعد مداولات استمرت عدة أشهر كانت كفيلة بإقناع حكومة المديرين بها و التقدم نحو الخطوة التالية التي أوكلت إليه قيادة ، الحملة الإيطالية . ( رغم أن العديد من المؤرخين يستبعدون هذه الفرضية بدعوى أن حكومة المديرين كانت غير متحمسة للخطة التي وضعها بونابرت لاحتلال إيطاليا ، و بأن القرار الصادر بتعيينه قائدا لجيش إيطاليا كان بضغط من رجلها القوي و الأوسع نفوذا " الحاكم باراس " الذي انتزع عنوة القرار المذكور لإرضاء عشيقته جوزفين عشية اقترانها من عشيقها الأخير نابليون بونابرت )0كان نجاح نابليون في قيادة الحملة الإيطالية التي توجت بإلزام النمسا على التوقيع على معاهدة " كامبيو فورميو " – أوكتوبر 1797 – التي أخرجت النمسا من الأراضي الإيطالية و مهدت له إعادة ترتيب البيت الإيطالي ، " على الطريقة الفرنسية النابليونية " ، بمثابة بيان جلي لصالح بونابرت الذي أثبت للفرنسيين بأن جدرانه على الصعيدين السياسي و الدبلوماسي لا تقل عن جدرانه في الحرب . و هو الأمر الذي دعى حكومة المديرين التي اغتنت من جراء حصولها على حصة الأسد من الغنيمة الإيطالية التي شحنها الجنرال المنتصر إلى باريس ، إلى التحسب من طموحات " سيد الانتصارات " الذي استقبلته باريس حكومة و شعبا بمراسم احتفالية لم يشهدها تاريخ الثورة الفرنسية من قبل . لذلك قررت إبعاده عن باريس العاصمة السياسية و المسرح الذي تحاك فوق خشبته المؤامرات و الفتن ، و ذلك خشية استخدامه كسيف من قبل معارضيها من الطامعين بالسلطة . فأوكلت إليه قيادة " جيش إنكلترا " و مهمة غزو الجزيرة البريطانية . و إثر اكتشاف بونابرت وبالملموس استحالة غزو الجزيرة ، أوكلت إليه مهمة إنشاء جيش جديد لاستخدامه في غزو مصر و هو المشروع الذي عرف فيما بعد باسم (المغامرة المصرية) أو ( الحملة المصرية) . و هي الحملة التي بدأت بتحرك السفن الفرنسية التي تحمل على متنها فرق جيش الشرق معداته الحربية من ميناء طولون في 19 أيار (مايو) من العام 1798 و توجهت به إلى شواطئ الإسكندرية التي وصلها يوم 30 حزيران (يونيو) من نفس العام .كان من سوء حظ حكومة المديرين ، الهزيمة المنكرة التي لحقت ببونابرت و جيشه في عكا ، و مناعة أسوارها التي شكلت حاجزا أعاق تقدمه نحو الشمال و في اتجاه الشرق و قضت خلال حصارها الذي دام نحو شهر و نصف الشهر (من نهاية آذار إلى منتصف أيار ( مايو 1799 ) على نصف جيشه و دمرت أكثر من نصف معداته . و هو الأمر الذي قضى على طموحاته بإقامة إمبراطورية شرقية يستقل بها بعيدا عن فرنسا ، كما كان يطمح و يحلم ، بحسب رسائله المنشورة و مذكراته و مذكرات من كتبوا عنه، و قرر العودة إلى فرنسا و الاكتفاء بالكعكة الفرنسية و ترك أمر مصر و شعبها تحت أمرة أعوانه من قادة جيش الشرق ، أو بتعبير أدق قادة " ما تبقى من جيش الشرق " 0
بونابرت و سييس : ـ 6 ـبعد رحلة سرية وشاقة دامت نحو 40 يوما وصل الجنرال بونابرت ، القائد الذي تخلى طواعية عن قيادته لجيش الشرق والحملة المصرية ، إلى جزيرة كورسيكا بهدف الاستراحة والتأمل بما سيقدم عليه حين وصوله إلى باريس 0 وبعد أسبوع ، أي في السابع من تشرين الأول ( أوكتوبر ) 1799 غادر ميناء أجاكسو برفقة القافلة التي أقلته من الإسكندرية ونزل في " فريجوس " ومنها توجه براً إلى باريس.في اليوم التالي على وصوله إلى العاصمة الفرنسية ، أي يوم 17 تشرين الأول ، بدأ الجنرال العائد إلى الوطن بتقديم دفوعه وتعليل أسباب عودته أمام الأعضاء الخمسة في حكومة المديرين بهدف امتصاص نقمتهم وتجنيب نفسه من أي إجراء عقابي ، أو تأديبي ، بحقه لكونه خرق قواعد الانضباط العسكري وتخلى عن جيشه الذي أصبح بلا رأس. وبعدما تم له النجاح في تبرئة ساحته ، اضافة إلى نجاحه في اقناع حكومة المديرين ـ التي تخشى استخدامه من قبل الطامعين يالسلطة في حال بقي في باريس ـ بقبول اعتذاره عن تنفيذ طلبها الجديد بالعودة إلى إيطاليا وقيادة جيشها لدواعٍ تتعلق بالاعياء الشديد ، ورغبته بالتفرغ العلمي داخل الأكاديمية الفرنسية التي سبق لها منحه شرف العضوية فيها بعد عودته من الحملة الايطالية ، بدأ بونابرت يخطط سراً للإطاحة بنظام المديرين المنقسم على نفسه ويبحث عن شريك ، أو شركاء ، لمساندته ودعم توجهاته التي تستهدف استبدال نظام المديرين بنظام آخر يكون فيه بمثابة القائد الأعلى وصاحب السلطة الأولى 0 ولقد وجد بونابرت في الأب " سييس " ( أحد الأعضاء الخمسة في حكومة المديرين ) ضالته ، لأن المشرع الكبير وصاحب الكراسة الشهيرة التي مهدت لاندلاع الثورة الفرنسية ( ما الطبقة الثالثة ؟ ) ـ بداية 1789 ـ كان من داخل نظام المديرين يبحث سراً عن سيف يستخدمه في المشروع الانقلابي الذي وضع له الخطوط العريضة ، والقاضي بالغاء نظام المديرين واستبداله بنظام القناصل 0 كما وجد " سييس " زعيم الحزب الجمهوري المعتدل ، والباحث عن سيف ، في الجنرال المجرب بونابرت ضالته 0 ومن خلال هذا اللقاء الشهير بين إرادة الأب " سييس " وإرادة الجنرال نابليون بونابرت ، خيل للأول بأن الثاني ( السيف ) أصبح في قبضته وتحت جناحه ، ، ولكن الحقيقة التاريخية تقول بأن " سييس " الماكر وقع في فخ الجنرال " الأشد مكراً " والذي كان منذ البداية واثقا بأنه سيكون الرجل الأول وصاحب السلطة الأولى في النظام الجديد الذي رسم ملامحه العامة والتفصيلية الأب سييس " والذي يعتمد نظام القناصل0بعد الانقلاب الشهير ( انقلاب 18 برومير ) الذي وضع " سييس " خطته وقام بونابرت بتنفيذ الشق العسكري منه و " سييس " وأركان حزبه الجمهوري المعتدل بتنفيذ الشق السياسي المتعلق بانتزاع موافقة مجلس الشيوخ والنواب على الاقرار بشرعيته الانقلاب والنظام الجديد الناجم عن انقلاب 18 برومير 0 أقسم القناصل الثلاثة " سييس " و " بونابرت " و " روجيه قصر – دوكو " ـ وهو أحد المديرين الخمسة السابقين وحليف للأب سييس ـ اليمين القانونية وتوجهوا إلى قصر اللوكسمبورغ الذي كان مقر مجلس المديرين المخلوع.
نابليون أمبراطوراً : ـ 7 ـدشن عهد القنصلية بتنصيب الجنرال نابليون بونابرت قنصلاً أولا ـ وبذلك استطاع بونابرت. ( الذي وصف فرنسا في ظل المديرين بثمرة الكمثرى التي نضجت ) من قطف الثمرة ووضعها في سلته. وبذلك أيضا استطاع السيف التفوق على الأب سييس ، العقل المدبر للانقلاب على المديرين ومهندس النظام الجديد ( نظام القناصل ) ، ووضع حد لطموحاته السياسية ولحلمه الخاص بدور مشابه للدور التاريخي الذي قام به الكاردينال ريشيليو في فرنسا القرن السابع عشر 0 فبحسب المادة (41) من الدستور الجديد ( دستور السنة الثامنة ) الذي صاغته عبقرية سييس التشريعية ، أصبح القنصل الأول " هو الجهة المصدرة للقوانين ، والمقرر في مسائل الحرب والسلم ، اضافة إلى المسائل المتعلقة بتعيين الوزراء والسفراء وعزلهم .... الخ" ، أي صاحب الكلمة الأولى والعليا في الجمهورية الفرنسية0بعد تمكن نابليون في احكام قبضته على السلطة ، قرر عزل " سييس " ورفيقه " روجيه ـ دوكو " والتخلي عن رفقتهما ، لأن الأول قوي ويصلح لأن يكون على رأس النظام القنصلي الذي وضع بنفسه ملاحمه النهائية ، والثاني ضعيف ومجرد ظل للأول ، واستبدالهما بقنصلان جديدان هما " كامبا سيريس " و " لبرون " وكان الأول خبير في مجال الإدارة والقانون ، والثاني في مجال الاقصاد والمال0 وكان نابليون بحاجتهما للقيام باصلاحات ادارية ومالية وقانونية تحمل اسمه ، وهو الأمر الذي كان متعذرا في ظل رفقة سييس 0بعد الاصلاحات الادارية والمالية والقانونية التي قام بها نابليون خلال العامين الأوليين من حكمه ، بدأت تتكرس ظاهرة تقبل نابليون ونظامه داخل فرنسا التي بدأت تنعم لأول مرة بدولة النظام التي حلت محل دولة الفوضى ، أو حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه ( روح الثورات والثورة الفرنسية ) ـ باريس 1922 ـ بدأت تنعم بالمزايا التي قدمها نظام نابليون " الاستبدادي الفردي المنظم " الذي حل محل نظام استبداد الجماعات الفوضوي والمشوش . وهو الأمر الذي استوجب ترحيب الفرنسيين الذين شعروا بأن من الحكمه قبول نظام مستبد لأنه أخف وطأة من سابقه 0 وخلال هذه الفترة من حكم القنصل الأول بدأت تتكرس ايضا ظاهرة تقبل بونابرت وسط الطبقات المتعلمة والمتنورة في العديد من ممالك أوروبا 0 ولعل اهداء بيتهوفن سمفونية البطولة إلى بونابرت عام 1802 كان دليلا معبراً عن مزاج الفكرة النيرة الأوروبية على هذا الصعيد .لم تفت نابليون وأركان حكمه أهمية اقتناص هذه الظاهرة واستثمارها لمصلحة سيد النظام الذي كان يبحث عن وسيلة لائقة تكفل تخليده في الحكم0 فقام معاونه القنصل الثاني " كامبا سيرس " الذي حل محل "سييس" ولم تكن عبقريته القانونية تقل عنه ، بالتحضير للاستفتاء الشعبي الذي تم يوم 12 آب ( اغسطس ) 1802 ، وأفضت نتائجه إلى انتخاب نابليون قنصلا مدى الحياة0كان استفتاء 1802 مقدمة لاستفتاء عام 1804 الذي سيقرب لحظة التماس بين الحلم والواقع من خلال ايصال نابليون إلى هدفه المنشود ، أي هدف تنصيبه أمبراطورا على رأس الجمهورية الفرنسية. وكان" فوشيه " هذه المرة هو الوسيط المباشر بين بونابرت والأمة حيث استطاع انتزاع بيان من مجلس الشيوخ يتمنى فيه على سيد البلاد وحاكمها المطلق التكرم بالموافقة على إرادة المجلس المذكور ومشروعه القاضي باجراء استفتاء شعبي على مطلب تعيينه امبراطورا على رأس الجمهورية الفرنسية ، وساعد الكونغنسيوني القديم الشيخ " كوريه " في هذه المسرحية من خلال مشروعه الآخر الذي تقدم به باسمه والذي ينص على تتويج نابليون امبراطورا على الجمهورية الفرنسية مدى الحياة ويكون الحكم له ولذريته من بعده0 وكما هو متوقع نال مشروع كوريه موافقة الأغلبية الساحقة من الشيوخ 0 اما الاستفتاء الشعبي فقد نال بدوره على موافقة 99.999 في المئة من المقترعين الفرنسيين 0 وبهذا الاستفتاء انتهت فترة القنصلية التي امتدت من 11 تشرين الثاني ( نوفمبر ) من العام 1799 ، إلى 18 أيار ( مايو ) من العام 1804 ، وبدأت مرحلة الامبراطورية اثر انتقال مجلس الشيوخ إلى سان كلود لعقد جلسته التاريخية التي خصصت لتهنئة نابليون وزوجته ( جوزفين ) بالعهد الامبراطوري الجديد0
التتويج : مع اقتراب يوم 2 كانون الأول ( ديسمبر ) من العام 1802 ، وهو الموعد الذي حدده مجلس الشيوخ لحفلة تتويج الامبراطور والامبراطورة ، بدأت باريس مثل خلية النحل تستعد لهذا الاحتفال الكوني ، وبدأت وفود الممالك التي أبدت استعدادها للمشاركة بحفلة التتويج تتدفق على باريس من كافة أنحاء أوروبا 0 وكان البابا بدوره على رأس الوفد الكبير الذي قدم من روما لتقديم التهنئة والمشاركة بمراسم التتويج0في الساعة الحادية عشر من صباح اليوم الثاني من شهر كانون الأول ( ديسمبر ) 1804 استقل نابليون عربة من ذهب وكريستال تجرها ثمانية خيول مطهمة مغطاة بالحرير الناصع البياض ، وغادر مقر اقامته الدائم في قصر التويلري على رأس موكب مهيب إلى كنيسة نوتردام ، حيث كان بانتظاره هناك البابا بيوس السابع ليبارك تتويجه الذي سيجري على طريقة أباطرة الرومان القدماء 0 وفي كنيسة نوتردام التي وصلها الموكب الامبراطوري بدأ الاحتفال وفق تقاليد التتويج الامبراطورية القديمة التي وضعها مدير الحفلات الأول في قصر التويلري الكونت دي سيفور 0تقدم نابليون وكان يرتدي معطفا امبراطوريا مطعما بالمخمل القرمزي تعلوه ملاءة تناثرت فوقها نحلات من الذهب وجثا أمام الهيكل وحنا رأسه ويمين الحبر الأعظم تقدسه وتباركه وتناول تاجا من الغار المذهب ووضعه على رأسه ، تماما كما أظهرته اللوحة الشهيرة لدافيد ( لوحة تتويج بونابرت ) ، ثم توجه الى زوجته ووضع على رأسها تاجا من الماس.في هذه اللحظة ارتفع صوت البابا واستدار نحو الجمهور المحتفل وبدأ بالهتاف وهو يرفع يديه إلى السماء " عاش الامبراطور نابليون ، عاش عاش إلى الأبد " ، وبدورها ضجت الكنيسة بالهتافات التي تحيي الامبراطور والامبراطورة ، وتعانقت مع هتافات الجمهوري المحتشد خارج سور الكنيسة والذي كان بدوره يطلق صيحات التحية للامبراطور الذي بدأ يجمع في شخصه بين مظاهر البوربونية وتقاليد العاهل المستبد المستنير0
* * *في هذا الوقت كان جنود الامبراطور يعتقلون الشاعر الفرنسي ديزورغ ويقتادونه إلى قلعة خاصة بالمجانين لأنه كتب هذين البيتين بحق الامبراطور العظيم :" أجل إن نابليون لعظيم ، أجل انه حرباء عظيمة " 0 أما في ألمانيا حيث دبدت البلبلة وخيبة الأمل في نفوس الكثير من اصحاب الفكرة النيره ، فقد قام الألماني العظيم بيتهوفن الذي ألف على شرف القائد بونابرت سمفونيه البطولة وأهداها اليه بسحب الاهداء المذكور " لأن بونابرت خان الثورة "ـ انتهى ـ
المستقبل
14\12\2004م
حسن عبد العال:باحث فلسطيني مقيم في سوريا
mervat10mm@yahoo.com
موبايل:00963944094429

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق