الجمعة، 22 مايو 2009

أمريكا ضد أمريكا: حسن عبد العال


أمريكا ضد أمريكا






حسن عبد العال



22-5-2009م



بلغ عدد الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية حتى نهاية عام 2004 نحو 37 مليون نسمة، وهذا العدد يشكل ما نسبته 12.7 في المئة من التعداد العام للسكان بحسب التقرير السنوي الأخير الصادر مع بداية خريف العام الماضي، 2005، عن مكتب الإحصاءات الأمريكي الذي رصد أيضاً زيادة سنوية في عدد الفقراء في الولايات المتحدة بلغت ما بين عام 2003 وعام 2004 نحو 1.1 مليون متساقط جديد ممن انزلقوا عن الدرجات السفلى من السلم الاجتماعي، وباتوا تحت عتبة الفقر. وفي عودة إلى التقرير السنوي السابق الصادر عام 2004 عن حالة الفقر في الولايات المتحدة الذي رصد أيضاً زيادة سنوية في عدد الفقراء بلغت ما بين عام 2002 وعام 2003 نحو 1.3 مليون متساقط جديد (ممن انزلقوا عن الدرجات السفلى من السلم الاجتماعي وباتوا تحت عتبة الفقر). يتضح أن الولايات المتحدة باتت تنتج سنوياً أكثر من مليون معدم جديد غالبيتهم من الملونين بحسب اعتراف المصادر الأمريكية ذات الشأن، أي على سبيل التحديد غالبيتهم من الزنوج الذين يشكلون بحسب إحصاء عام 1996 نحو 12 في المئة من التعداد العام للسكان في الولايات المتحدة، ومن المتحدرين من أصول أمريكية لاتينية الذين باتوا يشكلون بحسب التقديرات الصادرة مع بداية الألفية الجديدة نحو 12 في المئة من السكان. وعلى هذا الصعيد الأخير الذي يوحي في طبيعة الأمر إلى أن ظاهرة اصطباغ الفقر باللون الأسود، أو الداكن، ما زالت ترتبط حصراً، كما في الماضي، بثقافة التمييز العرقي التي طبعت الحياة الأمريكية بطابعها حتى بداية عقد الستينيات (من القرن المنصرم) والتي استُعيدت من جديد مع بداية التسعينيات (بحسب الملاحظات العديدة التي سجّلها مؤخراً العديد من الباحثين وعلماء الديموغرافيا والاجتماع الذين لاحظوا عودة الذهنية الأنكلوساكسونية إلى استعادة وإحياء ثقافتها القديمة القائمة على التمييز العرقي) فإن من الخطأ تحميل ثقافة التمييز مسؤولية هذه الظاهرة وفق الطريقة التبسيطية السابقة التي كانت تصلح لفترة الأربعينيات والخمسينيات. وإذا عدنا إلى التقارير التي رصدت التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل الأمريكي بدءاً بسنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، وخلال السنوات الخمس الأولى من الألفية الجديدة، والتي لوحظ فيها ازدياد مطّرد في عدد الفقراء الأمريكيين، إضافة إلى اتساع رقعة الفقر على خريطة الجغرافيا السكانية للولايات المتحدة حتى باتت تشمل الأمريكيين البيض، بحسب الاعترافات الأخيرة الصادرة عن مكتب الإحصاءات الأمريكي، فيمكن القول إن المشكلة، أو بتعبير أدق استحفال المشكلة، بات يكمن بداهة في النظام الاقتصادي والسياسي الأمريكي الذي يعتمد عقيدة السوق الحرة الأمريكية التي حلت منذ الثمانينيات محل التراث الليبرالي الأمريكي الذي تعرض للتصفية،.وبحسب العديد من التقارير التي وصفت حالة الولايات المتحدة في زمن التحولات التي أدت إلى تراجع مستويات المعيشة عند غالبية الطبقة الوسطى الأمريكية وزيادة ثروات الأقلية الغنية المتحكمة بالآليات التي تتحكم بالمجتمع، فإن النظام الأمريكي الذي بدأ يسوق منذ الثمانينيات والتسعينيات لنموذج السوق الحرة ويبشر بها كدين مدني جديد، بات ينتج الظواهر الجديدة (وغير المألوفة منذ بداية عهد النيوديل في الثلاثينيات من القرن المنصرم) التي أدت إلى خفض أجور أكثر من نصف التعداد العام للطبقة الوسطى الأمريكية التي باتت عرضة للتهشيم والتهميش، بذات القدر الذي بات ينتج آليات رفد جيش الفقراء بأعداد متصاعدة من البائسين وصلت مع بداية الألفية الجديدة إلى أكثر من مليون وافد جديد سنوياً، جلهم من الأفراد الذين ينتمون إلى المراتب الدنيا من الطبقة الوسطى، إضافة إلى زيادة إفقار الفقراء السابقين عبر اعتماد الحكومة الفيدرالية سياسات تقشفية تحد من موازنات صناديق إعاشة الفقراء وتقلصها إلى أكثر من النصف. أما بالنسبة لظاهرة انعدام الأمن الاقتصادي التي باتت تشكل الظاهرة الأشد خطورة على حياة ومستقبل ومستوى معيشة نحو 80 في المئة من أفراد الطبقة الوسطى الأمريكية فقد بدأت هذه الظاهرة المقلقة تسجل مستويات لم تعرف أمريكا مثيلاً لها منذ الفترة العصيبة التي عرفت في تاريخ الولايات المتحدة بسنوات الكساد العظيم منذ نهاية العشرينيات من القرن المنصرم. وبحسب العديد من الدراسات التي تصدت لهذا الجانب من الأزمات التي بدأت تعانيها الطبقة الوسطى الأمريكية بدءاً من الثمانينيات، فإن الفرد الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى (ما عدا الشريحة العليا من الطبقة المذكورة) لم يعد واثقاً بأنه سيشغل وظيفته في اليوم التالي، فهو يومياً مهدد باللحاق بسابقيه ممن خسروا وظائفهم وباتوا على قارعة الطريق. وذلك في ظل سيادة المفاهيم التي ألغت من القاموس الاجتماعي للولايات المتحدة كل البنود التي تتعلق بأية ضمانات رسمية تكفل حماية العمل والعاملين كما كان عليه الأمر في أمريكا السابقة، أمريكا الليبرالية، أو أية مزايا اجتماعية شبيهة بتلك التي يحصل عليها العاملون في الدول الصناعية المتقدمة بعد انتهاء عملهم. وأيضاً في ظل القوانين السارية التي أطلقت يد المديرين وحرية المسؤولين التنفيذيين الرئيسيين في الشركات في جميع المسائل المتعلقة بحق الطرد من المنشأة، والنقل خارج حدود الولاية، والحق في بيع المنشأة، أو تقليص حجمها، أو إعلان إفلاسها، أو دمجها مع منشأة أخرى..إلخ.أما على صعيد تركيز الثروة لمصلحة الخُمس الأوفر حظاً على حساب الأربعة أخماس الأسوأ حظاً من الأمة، فقد أدت الترتيبات التي تمت على صعيد إعادة تشكيل المجتمع الأمريكي وفق الطريقة التي تكفل تكيفه القسري مع مناخ هذا الشكل من الرأسمالية الإباحية، إلى خلط الأوراق من جديد وإعادة صيغة توزيع الثروة القومية والدخل القومي لمصلحة الأسر الغنية ولصالح الشريحة العليا من الطبقة الوسطى الأمريكية. وأهمها فئة المسؤولين التنفيذيين الرئيسيين وبحسب الأرقام التي سجلت منذ بداية التسعينيات، على سبيل المثال، ارتفاع الزيادة في الدخل السنوي للمسؤولين التنفيذيين الرئيسيين في الولايات المتحدة حتى حدود 150 مرة زيادة على الدخل السنوي للعامل المتوسط من أبناء الطبقة الوسطى الأمريكية، رصد في الوقت نفسه في اليابان زيادة بنحو 16 مرة. أما في ألمانيا، البلد الذي تجري فيه محاباة المسؤولين التنفيذيين الرئيسيين وفق مقادير أعلى من بقية الدول الأوربية المتقدمة صناعياً، فلم تتجاوز الزيادة أكثر من 21 مرة فقط. أما على صعيد المستفيد الأعظم من عملية تدمير مجتمع الطبقة الوسطى (الذي شكل الملمح الأساسي لأمريكا الخمسينيات والستينيات) وإعادة تشكيل المجتمع الأمريكي لكي يتلاءم ويتكيف مع مناخ السوق الحرة، وما نجم عنها بفعل تواطؤ الحكومة الفدرالية مع سلطة الشركات من إعادة خلط الأوراق على صعيد توزيع حصص الثروة القومية والدخل القومي لمصلحة الأغنياء (على طريقة إنقاص حصة الكثرة من الثروة والدخل القوميين بهدف زيادة حصة القلة القليلة من الثروة والدخل المذكورين). فبحسب التقارير التي رصدت ظاهرة الانخفاض الحاد في مستويات المعيشة عند نحو 80 في المئة من أفراد الطبقة الوسطى الأمريكية (ممن باتوا يعتمدون كلياً على السلع الصينية الرخيصة الثمن) فإن الولايات المتحدة باتت الدولة الصناعية الوحيدة في العالم التي تسير بالمقلوب على صعيد رسم السياسات القومية المتعلقة بالأجور. ففي حين كان يشهد عالم الدول الصناعية المتقدمة ارتفاعاً ملحوظاً في دخول العاملين وكسبهم السنوي منذ الثمانينيات والتسعينيات، بدأ سوق العمل في الولايات المتحدة يشهد انخفاضاً ملحوظاً في الدخل الأسبوعي عند نحو 60 في المئة الأدنى من الطبقة الوسطى، وثباتاً في دخل العامل المتوسط، على الرغم من زيادة الإنتاج في أمريكا وفق معدلات تفوق مثيلاتها في بقية الدول الصناعية المتقدمة، مثل فرنسا وألمانيا واليابان، ورغم ارتفاع معدلات الدخل القومي. وبحسب تقارير أمريكية نشرت مع بداية التحولات الجديدة وما نجم عنها من خلط للأوراق بهدف إعادة توزيع الثروة والدخل القوميين لمصلحة الأقلية الغنية، فإن هذه السياسة غير المبررة اقتصادياً في تخفيض وتثبيت الأجور، والتي أدت منذ منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات إلى خفض مستوى معيشة أكثر من ثلثي الطبقة الوسطى، كان يعني سنوياً اقتطاع أكثر من ثلاثة في المئة من الدخل القومي الذي كان من نصيب هذه الشريحة الواسعة من الأمريكيين وتحويلها إلى جيوب القلة القليلة من الأغنياء، وخاصة الأسر الأوسع ثراءً التي نالت حصة الأسد من هذا الصيد الوافر الذي أصبح يدر عليها في العام الواحد أكثر من مئتي مليار دولار.



حسن عبد العال



النور- 248 (7/6/2006)


حسن عبد العال


باحث فلسطيني مقيم في سوريا





موبايل:00963944094429

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق