الخميس، 28 مايو 2009

عن أمريكا المنهوبه من الداخل:حسن عبد العال








عن أمريكا المنهوبة من الداخل


بقلم: حسن عبد العال


29-5-2009م


مع بداية الألفية الجديدة، وبالتحديد مع بداية عهد بوش الابن، بدأت تظهر في الولايات المتحدة موجة جديدة من المؤلفات الشعبية التي تتناول بالنقد الجارح النظام الأمريكي في شكله الحالي، الذي بدأ يشكل قطيعة سافرة وغير مسبوقة، ليس فقط مع التقاليد الأمريكية الموروثة التي أرساها الآباء المؤسسون، وإنما أيضاً مع أمريكا الأمس، أمريكا الستينيات التي أصبحت كنموذج، أو كمثال، حلماً للطبقات المثقفة والمتنورة في أوربا التي كانت وقتذاك ما تزال أسيرة أطرها ووسائل عملها القديمة الموروثة عن مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية. ويعد كتاب الصحفي الأمريكي جيم هاي تاوير الذي حمل عنوان: لصوص في مناصب مرموقة (Thieves in High Places) إلى جانب كتاب مايكل مور، الذي صدر منذ ثلاثة أعوام بعنوان (رجال بيض أغبياء)، أحد أهم مؤلفات هذه الموجة التي تتناول بالنقد القاسي والجارح النظام الأمريكي الحالي بأسلوب شعبي من ذلك النوع الذي يهدف إلى تحاشي أساليب الأكاديميين ولغتهم، وذلك بهدف الانتشار وإيصال الفكرة إلى أكبر عدد ممكن من أبناء الأمة من الأمريكيين. ولقد اختار هاي تاوير في كتابه أسلوباً فجاً ومباشراً، ليس لأنه فج بوصفه كاتباً أو صحفياً، وإنما لأسباب تعود أساساً إلى طبيعة النظام الأمريكي الحالي الذي بات يستدعي الحديث عنه، بحسب العديد من هذا النوع من الكتاب الأمريكيين المعترضين، ليس التحدث بفجاجة وإنما بلغة الشتائم أيضاً. ولقد اتبع هاي تاوير هذا الأسلوب المناسب للمقام المناسب (والذي هو أيضاً ـ أي الأسلوب ـ هو الصيغة الأقرب للمستائين من الطبقات الوسطى والشعبية) منذ بداية الصفحات الأولى من كتابه، الذي لم يقتصر على مجرد توجيه الاتهام للنظام الأمريكي في صورته القائمة اليوم، بقدر ما حفل بالتعريفات التي اختارها لتوصيفه كنظام لم يعد يمثل، كالعادة، فريقاً حكومياً في خدمة المصالح، كما هو حال الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى نهاية عهد كلينتون، بل يمثل فريقاً حكومياً من أصحاب المصالح، أو بتعبير أدق من تحالف أصحاب المصالح الذين بدؤوا باحتلال البيت الأبيض، ومقرات وزارة الدفاع، والخارجية، والمالية، والخدمات، وكل مرفق من المرافق التي تعنى بالشؤون العامة، من صناديق الإغاثة الاجتماعية إلى المكاتب التي تعنى بشؤون البيئة. وهذا في حد ذاته بات يشكل انقلاباً على النظام الأمريكي وعلى الحياة السياسية الأمريكية بحسب هاي تاوير الذي نراه يحار من أين يبدأ وأين ينتهي في سرده للوقائع الفضائحية الدامغة التي تدلل على صحة اتهاماته للنظام الأمريكي الحالي، وتقدم لها كماً لا يستهان به من الشواهد والشهادات والوثائق الدالة على صحة دعواه وتوصيفاته الاتهامية، وبالأخص أبرزها التي تفيد أن أمريكا التي كانت تفاخر بديمقراطيتها أصبحت اليوم: (أمة الكليبتوقراطية)، أي بحسب هاي تاوير الذي لم يترك قراء كتابه في حيرة أمام المعاني التي يعبر عنها من خلال هذا المصطلح، (أمة مدارة من قبل فريق من اللصوص) و(حكومة مركزية تنفذ مشروعاً يقوم على نقل السلطة والثروة القومية من الأغلبية إلى الأقلية)، أي بلغة بعض علماء الاقتصاد والسياسة من الأمريكيين الذين سبق أن تعرفنا على بعض كتاباتهم، إلى (عصبة أوليغارشية). وبتفصيل نأخذه من حكيم الرأسمالية الحديثة الأمريكي ليستر ثورو، الذي سبق له أن حذر منذ أكثر من عشرة أعوام من خلال كتابه الذي حمل عنوان رأس لرأس (Head to Head) ـ 1993 ـ من خطر وقوع بلده أمريكا في قبضة الأوليغارشية، إلى أمة باتت مدارة كلياً من قبل مجموعة أوليغارشية، من أبناء الأسر الغنية، تضع مصالحها الذاتية المباشرة في المقدمة عندما تتخذ القرارات العامة، لأن هدفها تحقيق المزيد من الثروة وفق مبدأ (املأ الصناديق، أو امش) الذي لا يمكن تحققه من خلال اتباع الطريقة التقليدية التي قامت عليها الحكومات السابقة التي اعتادت وضع المصلحة العامة للأمة في المقدمة. لأن هذه الطريقة التقليدية العرجاء التي كانت توفر للمسؤولين ومتخذي القرارات الإثراء من خلال الحصص التي يحصلون عليها قانونياً من زيادة الثروة القومية (المتحققة بفصل مشاريعهم العامة) لا يمكن لها أن توفر الإثراء للمسؤولين إلا على المدى البعيد والمتوسط، في حين المطلوب هو زيادة الثروة بمعدلات أعلى وعلى المدى القصير والأقصر. ملامح أمريكا في كتاب هاي تاوير هي ملامح أمة نهبها قادتها وحماتها الجدد من أصحاب الثروات وأبناء الأسر الأوسع ثراء، الذين بدؤوا يشكلون ما يطلق عليه هاي تاوير عبارة اتحاد أصحاب المصالح أو (النخب التنفيذية من أبناء الطبقات الأثرية) الذي أصبحوا يحكمون أمريكا ويطبقون الحصار عليها (سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأخلاقياً)، وذلك كله بحسب هاي تاوير، الذي لم يكن الأول ولن يكون الأخير، في اكتشاف أسس هذه المشكلة، بفصل اتفاق الحزبين الديمقراطي والجمهوري على الأمة واقتسام سلطتها وثرواتها في زمن الطفرة الأوليغارشية الأخيرة التي بدأت تظهر ملامحها الأولية منذ منتصف الثمانينيات (من القرن المنصرم)، والذي أدى (أي الاتفاق التآمري) إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أسراب الجراد التي أطلقت منذ بداية الألفية الجديدة على المزرعة الأمريكية الوافرة الغلال وبدأت تأكل اليانع والأخضر، وتخلِّف للآخرين من أبناء الأمة الأمريكية اليابس والأشد يباساً.

ـ صدرت الترجمة العربية للكتاب، بالعنوان نفسه، العام الماضي 2005، عن دار الأوائل بدمشق.

حسن عبد العال
--------------------------------------------------------------------------------

النورالسوريه- 265 (11/10/2006)


حسن عبد العال


باحث فلسطيني مقيم في سوريا



موبايل:00963944094429

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق